أحمد عبد الناصر
أحمد عبد الناصر

د

مُعضلة الصندوق الأسود

من أشد ما أعجب له، هو مدى الاحتياج في استوضاح ما هو واضح. كيف أن هذه الدنيا هي أبعد ما تكون عن النعمة. وكيف أن الاختبار والابتلاء لا يطلبه إلا الظلوم الجهول. وكم أن هذه الدنيا ملعونة، ملعونٌ ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه. وكل شيء فيها من لذة إذا ما تم، فيعتره النقصان. فلا يُغر بطيب العيش إنسانٌ عاقل قط.

ومع هذا فالإنسان ينزع لها نزوع الحشرات للنار. يود أن يُخلد، يُعمر فيها أبد الدهر. هذا النزوع الذي يجعل من الإنسان يجنح لها، ويقدسها قداسة ما بعدها شيء. في الوقت الراهن في العالم الغربي نستطيع أن نقول بإنه تم إباحة كل ما قد يخطر على بالك. قد يُباح لك حتى الزواج من الحيوانات والدمى. بل أن تُصبح أنت ذاتك حيوانًا في ظاهرة أشبه بالخرافة يتحول فيها الإنسان إلى كلب مثلا ويعيش حياة الكلاب. حتى ما يتم تصنيفه في الوقت الحالي كاضطرابات البيدوفيليا، فإننا لا نستغرب أن تُصبح مباحة في المستقبل القريب.

هناك شيء واحد لا يزال خط أحمر؛ الانتحار. إنها جريمة، لو فكرت فيها سيتم حجزك في المشفى لمدة 24 ساعة. وظني في هذا بأن الموضوع سيستمر، وذلك لأسباب لا تتعلق بحياة الإنسان نفسه، وإنما لأسباب رأسمالية بحتة. يجب أن نُنتج، ويجب أن تستهلك.

لا مستهلك = لا ربح

الإلحاد والعدمية

العدمية – وهي الاعتقاد بعبثية الحياة وعدم وجود قيمة لها – هي لازم من لوازم الإلحاد. هذه قاعدة يُفترض ألا تتخلف. ومع ذلك أجدني أنا الذي أحاول أن اقنع الملحدين بذلك. فتبوء كل مساعيهم العقلانية بالفشل وما يكون منهم إلا أن يتحولوا إلى رواد تنمية بشرية يحاولون اقناعك “كم هذه عظيمة هذه الحياة” It’s a wonderful life

يقول نيل ديجراس تايسون – وهو من المشاهير في دفاعه الشديد عن أفكار الإلحاد -: من نحن إذا لم نترك أثر في الحياة، إنه صلب وجودنا. بينما يقول الفيزيائي ميتشو كاكو: ربما الحياة ليس لها هدف، لكننا كبشر لدينا الكثير من الأهداف؛ العمل والدراسة وغيرهم.. وكلام مماثل لستيفن هوكينج وغيرهم ممن نحُّوا ألف بائيات الإلحاد واعتنقوا كلام شاعري عجيب.

فشل كل من سمعت لهم، أو ناقشتهم في إثبات “لماذا هو هنا” ما هو السيئ في الموت، لماذا الانتحار ليس الاختيار الأفضل والأمثل لكل شيء. وأقوى الحجج في هذا الصدد هي واهية.

التطور وغريزة البقاء

هذه بالطبع الحجة رقم 1 عند الكلام عن الدافعية عن الحياة والبقاء. ولكن هذا يستلزم الكثير من الأفعال التي هو ينكرها، فمثلما أورد ريتشارد دوكينز أن الشخص الذي يخون زوجته، أو يتزوج العديد من النساء هو أمرٌ مُفضل من الناحية التطورية، ومع ذلك أنت تستنكر هذا لأسباب عدة. فنفس الغريزة التي تدفعك للبقاء حيًا، تدفعك لإنجاب عشرات الأطفال. لكن قد يمتنع الشخص عن الإنجاب أصلا وذلك للمحافظة على مساره المهني مثلا، وهو ما يتناقض مع غرائز التطور. ماذا عن الإجهاض الذي تنادي به أغلب الحركات الليبرالية وجل الحركات النسوية، ألا يتعارض هذا مع التطور وغريزة البقاء!

لا تعلق أفعالك على شماعة غريزة البقاء التطورية. فالكثير من الأفعال الأنانية التي تُحقق المنفعة على الفرد الواحد، لا تصب في المنفعة العامة للبقاء الجنس البشري. بل يُمكن أن نقول أنها تقلل أصلا من تلك الاستمرارية. فمبادئ الربح والاستهلاكية التي أصبحت جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع الحديث هي تضر بشكل حاسم في استمرارية الحياة على هذا الكوكب.

المتعة البحتة واللذة

الجملة الأكثر تكرارًا بعد غزيرة البقاء هي “أنا حر، أستمتع حتى الموت” وهذه من أكذب الكذبات. يكفيك أن تكون ملحدًا وتعيش في مصر وتكذب عليَّ بأنك تستمتع في حياتك! فعن أي استمتاع تتحدث. ثم اخبرني، ألا تتشدق ليل نهار بمعضلة الشر، وكيف يسمح الإله بكل هذا الشر في العالم، لماذا لا ننهي المشكلة من جذورها، لا حياة = لا شر أو معاناة.

ما الكارثة في أن يسقط نيزك على الأرض مدمر للجنس البشري كله؟ الإجابة لا شيء، لأنه لا هدف نهائي أصلا. أتعرف الأدهى من ذلك؟ تخيل إنك تعيش حياة مثالية، فمن نقص هذه الدنيا هي أن السعادة ذاتها تفتقر إلى الألم حتى تظهر، فحياتك الثرية في القصر الخالية من أي مشاكل على الإطلاق ستُصبح حياة مملة رتيبة كئيبة.

التجربة الفكرية “آلة التجربة” The experince machine توضح الخلل الواضح في مذهب السعي وراء الملذات واعتبارها المحرك الأساسي في الحياة. تخيل لو اخترعنا جهاز كمبيوتر تستطيع أن تعيش بداخله محاكاة للحياة المثالية، برأيك يا من تدعي البحث عن اللذة، هل ستختار العيش فيها أم ستقول كما أجاب أغلب الأشخاص بأنهم يُفضلون الحياة “الحقيقية”. أتظن بأن شخصية ملحدة مثل ماري كوري التي أفنت حياتها -حرفيًا- في العمل ستقبل الدخول في تلك الآلة والحصول على 100% سعادة! إن حتى نظرة المجتمع لها بعد إنجازاتها وجائزتي نوبل لم تقدرها. فها هي لا حصلت على منفعة دنياوية، ولا حتى تنتظر ثواب في الآخرة، فأي عبث هذا!

بين الجنة والعدم

لو أن الشخص وجد صندوقًا أسودًا لا يعلم ما بداخله، كل ما يعلمه أن الصندوق إما بداخله نعيم تام أو شقاء أبدي، ولا حاجة له بفتح الصندوق أصلا، فماذا نقول عمن يُدافع باستماتة عن ضرورة فتح الصندوق هذا! لا أجد وصف أقل من كنه غبي.

ستُصدم – بل وستنكر – النتيجة التي سنقولها الآن بالمقارنة بين حالتي الحياة 100% سعادة، وبين العدم. فهاهنا لا نتكلم على حياة دنيا فيها منغصات، بل نفترض حياة مثالية لا يعتريها أي نقص من أي جانب، بالتأكيد ستفضل عن حالة الموت أو العدم، أليس كذلك؟ الحقيقة المجردة هي عكس ما تظنه تمامًا.

كلاهما سواء، لا يوجد أي مفاضلة بين الحياة المثالية وبين العدم. وعندما أقول سواء لا أعني التطابق فلا تكن كالحمار الذي كان على مسافة متساوية بين الماء والطعام وهو في حالة متساوية من الجوع والعطش، فلم يختر أي منهما ومات جوعا وعطشًا. نعم الطعام والشراب مختلفين، ليسا متطابقين، لكنها سواء في حالة الحمار، أيهما اختار أولًا لا يهم في شيء.

لكن تسأل كيف تتساوى من فيها كل الملذات مع العدم المجرد! والمشكلة هنا أنك جعلت من السعادة في ذاتها قيمة، والحق أن السعادة قيمة لأنها سدٌ لنقص عند البشر، بينما لو أعطيتك كرسيان متطابقان في الشكل وقلت لك أحدهما سعيد والآخر حزين، أيهما تريد؟ ستصفني بالسفه، لأنه لا معنى للسعادة والشقاء في حق الكرسي. فالسعادة قيمة لمن يحتاج إليها، والطعام قيمة لمن يشعر بالجوع، والماء قيمة لمن يحتاجه، إلخ..

يتحجج البعض بأن فوات الفرص يخل من هذا التساوي. والآن نسأل لماذا فوات الفرص سيئ؟ الجواب لأنه يليه شعور بالندم والحسرة. تخيل معي الآن أنك قد ربحت اليناصيب بأموال طائلة، وقبل أن تحصل على أي شيء مت “أي تحولت إلى عدم كما كنت قبل أن توجد” فما هو الضرر الواقع إذن؟ شعور الندم والحسرة؟ كيف وأنت أصلا عدم، أي لا شعور لا بألم ولا حسرة ولا ندم.

فما بالك وأنت تعلم يقينًا بأن الحياة يُحال أن تكون 100% سعادة. الإنسان يغره الغرور ليعميه عن حقائق واضحة وضوح الشمس، الحياة ليست هبة، لا يوجد أي نعمة في الوجود. لا يطلب النقص إلا الإنسان الناقص في ألا لعنة الله على من يفتح الصندوق.