سلمى صلاح
سلمى صلاح

د

خلف كواليس العزل

في ليلةٍ وضحاها، تُجبرك نفسك على أن تترك كل ما تحمله في قلبك من مشاعر مهما تكن؛ حزن، فرح، قلق وأخرى.. أن تتركَ أيضًا كل ما يجول بخاطرك.. تلك الأفكار المتضاربة، وتلك الهموم التي ملأت صدرك ضيقًا فكدت تظن أن ليس بعد هذا الضيقِ ضيقًا، حتى تستفيض بما وُجدَ على كاهليك وأثقلهما..

تمر صدفةً بجوار مذياعٍ لا ينطفئ، ولا حتى تتغير إعدادته المجهزة مسبقًا على إذاعة القرآن الكريم.. فلا تنتبه إلا في لحظة بعينها.. كأنما تُبعث لك رسالتك الخاصة، هذه المرة كان يتلو القارئ قول الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا)، وقتها يقتادك تفكيرك وتتيقن من ضعف كينونتك.. ومن ثمَّ يتضح لك أنه مهما توقعت من حدوث شيء وترتيبه في مخيلتك بيومٍ مضى؛ فستستيقظ لتجد أن الأمر اختلف تمامًا.. شتات الأمس تضاعف تناثره! ولا ينطق لسان العقل إلا لائمًا النفس: “لم تحسبِ حسابًا لهذا الصباح يا نفسي!”، فتصبح لاهٍ تياه يعاندك الزمان..

روبرت فروست الشاعر الأمريكي قد تحدث يومًا عن عدم خوفه من الفراغات السماوية بين النجوم حيث لا أثر لوجود حياة تسكنها -تخيُل الأمر مُرعبٌ في ذاته فالفضاء يُخيفني-، فهي تُذَكره بمنزله الخاوي كما هي منازل الأشخاص في حياته.. خاوية أيضًا لا يسكنها أحد، تُخيفه الوحدة..

الوحدة تقبع في أعماق بئر الفِكرِ المُظلم.. ما إن تهوى بهذا البئر؛ فصدقني لا محالةً من الرجوع.. وتتأكد عندما يتضح عليك آثار الوحدة؛ السهر في ليلٍ لا يسكنه إلا الصمت، الأرق ومع ذلك نومٌ مُطول وكأنك طفلٌ رضيع وُلد لتوه، فلا يستيقظ إلا بُكاءًا حتى تطعمه الأم، مع فارق أنك لست بطفلٍ وأنك تسهى عن تناول الطعام..

هل تذوقت المشاعر يومًا! أتدري أن مريض الوحدة دائم تذوقها!.. يتذوق ألمًا ليس إلا، يتذوق حُزنًا يحتل قلبه ويترك آثارًا ربما قد تكون قاتلة على المدى البعيد.. فما زاد عن الحد نعرف جيدًا أنه ينقلب للضد، كما يتذوق اليتيم ألمًا ليس بيده أن يمنعه عندما يختلس النظر ليرى طفلًا آخر تحاوطه يديّ والديّه احتضانًا، بينما ذاك اليتيم ربما لم يُلمس قط إلا تعنيفًا..

ظننت كثيرًا أن الموسيقى هي علاج الوحدة، فالوحدة تضم في أرجائها صمتًا مبرحًا لا يُحتمل -قد عانيته مرارًا وتكرارًا- لا يحوي سوى صوت أنفاسك، تزعُم أن محاوطة البشر ستساعد في كسر أسوار الصمت، ورغم ذلك.. فلا تستطيع صبرًا مع أول صوت بشريّ يُحدثك، تسعى هاربًا إلى أروقة الألحان مُحتميًا، تكتفي بأربعة جدران مزخرفة بالألحان لتستكمل بها وحدتك، فتحب الوحدة وتتخذ الصمت صديقًا وتستعيد بها سلامك النفسي مستأنسًا بذاتك.

ولكن ما استمتعت به الأمس راضيًا، يجبرك الغد عليه متأففًا، ازداد الصمت صمتًا لا يطيقه أحد، أجلس أنا والصمت لا ثالثًا لنا، وقد اتسعت الغرفة بشكلٍ مفاجئ واضطراريّ إلى أن أصبحت بيتًا بأكمله، استيقظ على الصمت، وأنام على ذاتِ الصمت!
أدركت وقتها أني لم أختر وحدتي، ولا أحبها! الصمت المبرح الذي اعتدت عليه وتصورت أني احتمله، فلا.. هو لا يُحتمل مطلقًا ومن يقول عكس ذلك فهو يخدع عقله، والعقل لا يُخدع يا رفيق.

شيٌ أصغر من ذرة التراب التي تخنق جيوبك الأنفية في جميع فصول العام، هو ما أضاف إلى صمتك صمتًا! شلل فكريًا مؤقت لتستوعب ما يحدث ويعجز تركيزك عن تجميع ما بُعثر من منطق وفكر.. “عزل” وليست “عُزلة”، قد نال بيتنا جانبًا من لعنةٍ أصابت العالم هذا العام.. ولسوء الحظ، لم أنل منه جانبًا على عكس البقية.. تركوني بمفردي.. هم سويًا مصابون، وأنا وحيدةٌ وحدي سليمةٌ بعيدة.. لم تمسسني اللعنة، ولم تعبر جسدي على الرغم من اختلاطي بهم، فلم يكن ذلك سببه الحذر أو الصدفة.. لكن تجلت واضحةً في تفاصيل تلك الأيام تدابير الله في عدم إصابتي..

اصطفوا بمجرد عبوري باب المنزل ليمنعوا أي خطوة أخرى داخل وكر الوباء، وعاطفة الوالد التي لم يرها أي منا مسبقًا قد حاوطت قلبي في تلك الأيام، اشتياقٌ مرير ظهر على والدي عندما سمعته يعبر عن ذلك قولًا وعلنًا، رغم أنه اعتاد غيابي لأيام سواء كان لسفرًا أو عُزلة في غرفتي.. لكن كما الأسير حُكم عليه ألا يرى الشمس، حُرِمت أيضًا من شمسي وضيائي فحُرمت رؤيتهم..

أتذكر جيدًا شعور الخوف من الاستيقاظ لأني لا أعلم ما قد يجد من جديد! وأتذكر شعور خشية النوم لأني لا أعرف ما سيحدث غدًا، أدركت حينها أن كل ما أفعله ليس سوى إرهاق عقلي بالتفكير في شيء يستحيل أن نتوقعه، قد نستيقظ على مستجدات لا يمكننا تحملها، وربما إن لم تستيقظ عليها فستكتشف أن ميعاد حدوثها ليلًا.

ليس عليك سوى التحرر من القلق والخوف مما قد يحدث، لا تتوقع حتى لا تفزع دون سبب، أترك عقلك يسترجع تركيزه في غير القلق، وتيقنت أيضًا أني لا أستطيع العيش دون رؤية أهلي يومًا، ولا أطيق أن يمسسهم سوء لو يعلمون، ولو أستطع أن أحرر عاطفتي من قيدها أمامهم.. لكن ها أنا وحدي، أتحمل عناء نفسي، ويؤنسُني مصباحًا زجاجي ينير ليلي بتوهجه الأصفر، يبعث في نفسي طمأنينة اللاوحدة، ربما أنام مطمئنة دون خوف.. ابتسم لها وأغمض جفنيّ، فيبدأ عقلي الباطن في إرهاقي بلقطات من الخيال تُثير الضيق في نفسي.. حتى استيقظ فلا أجد سوى أربعة جدران، مصباحًا منيرًا وأنا.