تسبيح تكروري
تسبيح تكروري

د

ما بين المدارس والسّجون

كلما مررتُ بمدرسةٍ مُسيّجةٍ بالأسلاك الشائكة، أثار ذلك فيَّ العجب؛ فكيفَ يمكن لهذهِ الأماكن أن تكون مراكزَ للتربيةِ والتّعليم! وكيف يمكن لهذا التصميم الهدّام أن يُخرِّجَ أجيالًا تُعمّر وتبني! وكيف لنا أن نتأكّد من أنّ هذه الأسلاك الشائكة المُمزِّقة لا تُمزّق في أطفالنا عزّتهم وكرامتهم، فهل يمكن أن تجتمع وظيفةُ التربية والتّعليم في ظلّ وجود الأسلاك الشائكة حول مراكزها؟!

نظرة موجزة على استخدام الأسلاك الشائكة

اختُرعت الأسلاك الشائكةُ في ستّينات القرن التّاسع عشَر، وقد استخدمها الإنسان بشكلٍ فعّالٍ في المراعي لمنعِ الماشِيَةِ من الهرب، أو لتحديد مناطق الرّعي، ثمّ استُخدِمت على نطاقٍ واسعٍ في الحُروب لحمايةِ النّاسِ والمُمتلكاتِ مِن الاقتِحامات، وتستخدم حاليًّا بشكلٍ واضحٍ في المنشآت العسكريّة، والحدود الإقليميّة، وفي السّجون لمنع السّجناء من الهرب.

نظرة من داخل المدارس

تقولُ الحكمة القديمة: “كلّ ممنوعٍ مرغوب”، ويقولُ قيسُ بن الملوّح: “أَحَبُّ شَيْءٍ إِلى الإِنسانِ ما مُنِعا”، إنّ ثنائيّة المنع والرّغبة فطرةٌ إنسانيّة، لذلكَ تجدُ الطّفلَ يحاولُ لمس كوبِ الشاي الّذي منعته عن لمْسه، ويعبثُ لك بالمُمتلكات الّتي واريتها عنه، فماذا عن طفلٍ وجدَ أنَّ الأسوار من حوله تخبرهُ بوضوحٍ أنّه ممنوعٌ مِن مُغادرتها؟ عندها يصيرُ الهربُ مرغوبًا أكثر؛ لأنّهُ مربوطٌ بتحدِّ المنع، ولأنّه يصنعُ منهُ بطلًا في نظرِ زملائه، فإن كانت المدارسُ ترى أنّها تُقلّل بذلك نسبةَ الهربِ أو تمنعهُ بذلك، فإنّها على المستوى الآخر تزيدُ الرّغبة فيه؛ وزيادة رغبة الهربِ يعني إقلال رغبة البقاء؛ وعدم الرّغبةِ في البقاءِ يشيرُ إلى ارتباطٍ أقلّ في المكان، وبما أنّ المدرسة هي المكان الأساسيّ للتعلُّم؛ فكيفَ ترَى المدارس أنّها ستصنعُ جيلًا مُحبًّا للعلمِ مُقبلًا عليهِ راغبًا في الاستزادةِ منه طالما تزيد كراهيته حيال البقاء فيها!

ومن زاويةٍ أخرى، فإنَّ المدارسَ بهذا الشّكلِ تشبهُ -في ذاكرة الطّفل- صورة السّجون، تلك الّتي يعرفُ مسبقًا أنّها أماكن المُجرمين، أو مَن هم غير صالحين للدّمج في المُجتمع، وإنَّ أهمّ ما ينمو مع الطّفلِ كرامتهُ وشوكَته وعزّته، فإن نُزعوا عنهُ ظلّ طوال عمرهِ مغلوبًا لا ينتصرُ لحقٍّ ولا يجرؤ على الإقدام، فكيفَ نريدُ للطّفلِ أن ينمو بعزّةٍ إذا ما وضعناهُ كلّ يومٍ في موضعٍ يشبهُ في تصميمهِ السّجون! لقد قالَ أمل دنقل تعبيرًا مُدهشًا في قصيدتهِ (لا تصالح)، جاء فيه:

“كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغُلامٍ وهو يكبرُ -بين يديكَ- بقلبٍ مُنكَّس”

حتّى وإن كان الشاعر يقصدُ معنًى مختلفًا داخل سياق قصيدته، إلّا أنَّ هذه الأسلاك الشائكة التي اعتاد الطفل ربطها بالمجرمين تجعلُ قلبه مُنكّسًا بشكلٍ أو بآخر، وما أبلغهُ من وصْف!

ثمَّ إنَّ مظاهِر زيادة الحماية، مِن وضع الأسلاك الشائكة وتثبيت الكاميرات، يخلقُ في نفسِ الإنسانِ شعورًا أقلّ بالأمان، وفي هذا يورِدُ عالم الاجتماع زيجمونت باومان في كتابهِ (الأزمنة السائلة) قولًا لروبرت كاستل، جاء فيه: “إن شعورنا الشديد بفقدان الأمان لا يصدر عن ندرة الحماية، بل عن عدم وضوح نطاقها في عالم اجتماعيٍّ يتمركز حول طلبٍ لا نهائي للحماية، وبحث مسعور عن الأمن، فكلّ قُفْلٍ نضعه على الباب يجعل العالم أكثر إثارة للهلع”، إنَّ زيادة مظاهر الأمان يجلبُ في المقابِل هلعًا أكبَر، أو شعورًا أقلّ بالأمان، فماذا وإن تعرّضَ الطّفلُ لذلكَ في المكان الّذي يجبُ أن يُربّى ويتعلّم فيه!

وفي ذاكرتنا نحن الفلسطينيّون، فإنّنا نرى هذه الأسلاك بكثافةٍ عند الحواجِز العسكَريّة، إنّها وسيلةُ المحتلّ لِمحاولةِ تأمينِ نفسه مِن جهة، ومحاولةِ إشعارنا “بالذلّ” من جهةٍ أُخرى، فكيفَ يربطُ الطّفلُ بينَ رؤيتهِ لتلكَ الأسلاكِ عند حواجز الاحتلالِ وفوق أسوارِ مدرستِه!

نظرة من خارج المدارس

من المُفترض أن تكون المدرسة المكان الّذي يُخرّجُ المتعلّمين الّذين يعرفون اللائق مِن غير اللائق على درجةٍ كافيةٍ لكلّ عُمر، إنّها مِن اسمها تربيةٌ وتعليم، وقد سبقت التّربية التعليمَ لأنّها الأشدّ أهميّةً في هذا الموضع، وقد ربط شاعرٌ بين الخُلقِ والتعلّم فقال:

“العلمُ كالغيثِ والأخلاق تربتهُ
إن تفسَدِ الأرضُ تذْهب نعمةُ المَطَرِ”

لكنّ نظَرَنا إلى وجود الأسلاك لمنع المدارِس من الاعتداءات الخارجيّة يطرحُ السّؤال الطبيعيّ: مَن الأشخاص المُحتملون لهذه الاعتداءات؟

بما أنَّ الأسلاك لا توضع في حالة الحرب؛ فلا نستطيع افتراض وجودها لحماية الأطفال من هجومٍ محتملٍ لمحتلٍّ أو مُستعمِر، هذا يجعلنا أمام حقيقة أنَّ المدارس تحمي نفسها من أشخاصٍ كانوا في إحدى الأيّامِ طلّابًا على مقاعدها، ودرسوا مناهجها، وتلقّوا حِصص الدّين والأخلاق والآداب فيها، لتجعلهم يخرجون إلى العالمِ لائِقينَ فاعِلين، فلِمَ قد تحمي أسوارها منهُم إذًا؟!

إنّ حماية المدارِس من أشخاصٍ كانوا في يومٍ ما طلابًا على مقاعِدها هو في الحقيقةِ انعكاسٌ لفشلِ النّظام التعليميّ داخلها، أو على أقلّ تقديرٍ عدمُ كِفايَتهِ لما هو مطلوب، وتزدادُ فداحةُ الأمرِ حينَ يكونُ هذا الاعتداءُ على المدارِس من طلابٍ ما زالوا أصلًا على مقاعد الدّراسة، وهذا حاصلٌ بالفعل، فقد عزمنا مرّةً في المدرسةِ قبل 6 سنواتٍ على صنعِ مكتبةٍ صفيّة، وكنتُ أولى الطالِبات الّتي تُحضِرُ بعضَ كُتبها لصنعِ المكتبةِ وإتاحة استِعارة زميلاتي للكُتُب، أحضرتُ كُتبي يوم الخميس، وحين عدنا للدّوام يوم الأحد كانت الكُتُب قد اختَفت! أخبرتني مديرتي فيما بعد أنّ طلابًا من مدرسةٍ قريبةٍ كانوا قد تسلّلوا إلى المدرسةِ ووجدوا الكُتُب فسرقوها. تخيّل إذًا مدى نجاح هذهِ البرامج التعليميّة في زرع ما يجبُ زراعته في الطلّاب!


أحاولُ هنا لفت النّظَرِ إلى أنَّ الشّكل الخارجيّ للمدرسةِ غير مفصولٍ عن جودة التعليمِ داخِلها، وبأنَّ الأسلاكَ الشائِكةَ -برأيي- تفسِدُ أكثر ممّا تُصلِح، ومع أنَّ التخلّي عنها الآن قد يأتي بضررٍ أكبَر ضمنَ منظومة التعليمِ الحاليّة، إلّا أنَّ الإشارةَ لها مهمّة جدًّا عند مُحاولة الإصلاح التعليميّ.