هبة علي
هبة علي

د

حوض سمك

عندما كنا صغاراً كنا نجتمع كل أسبوع في بيت أحد أفراد العائلة وكان ذلك اليوم عند خالي مختلفاً حقاً، وذلك لأن في بيتهم حوض سمك وكان هذا يمثل اكتشافاً بالنسبة لي وكان كل أطفال العائلة يقفون أمام حوض السمك وينظرون له بانبهار وكل منا فى داخله يتمنى أن يقتني مثله فى بيته، وفي يوم من الأيام تشجعت وصارحت والدتي برغبتي الملحة فى اقتناء حوض سمك وبالطبع رفضت رفضاً باتاً والسبب هو أن حوض السمك هذا غير نظيف ويحتاج إلى عناية فائقة حتى شعرت بالقرف منه، وبالرغم من أن تبريرها لم يكن كافٍ لإقناعي فلقد أقنعت نفسي أنني اقتنعت به حتى علمت أن بيت خالتي ابتاعوا حوض سمك ودعتني ابنة خالتي لمشاهدته، ذهبت معها وشاهدته لكنه كان صغير جداً عن ذاك الذي اعتدت على مشاهدته، وأسماكه قليلة لكنه في النهاية حوض سمك، وفي ذلك اليوم اكتشفت أنني لازلت أريد حوض سمك، وظلت تلك الفكرة تأتيني بين الحين والآخر لكنني لم أصرح بها لأحد وبعد فترة قصيرة جائني الخبر اليقين ألا وهو تخلص بيت خالتي من حوض السمك، باعوه أو رموه، في الحقيقة لست أذكر ما حدث تماماً، لكن الشيء الأكيد أنه رحل بلا رجعة والسبب أنه ليس نظيف ويحتاج لعناية فائقة حينها أدركت شيئاً ما ألا وهو أن الأم بإمكانها رؤية ما ليس باستطاعتنا رؤيته.

مرت سريعاً مرحلة الطفولة والتحقت بالجامعة وتخرجت منها أيضاً وحوض السمك لا يخطر لي على بال، حتى كنت مع صديقتي يوماً ما ومررنا من أمام محل لبيع أحواض السمك واسترجعت ذكريات الطفولة حينها وقلت لصديقتي أنني في الطفولة كنت أتمنى اقتناء حوض سمك وعاد لي هذا الشعور الآن فأخبرتني بقصتها مع حوض السمك والتي جعلتني لا أكرهه فقط بل أكره ذكره أمامي فقد كانت هي وشقيقها يعشقان أحواض السمك واشتريا واحداً بالفعل ووضعوه فى المنزل وكانوا شديدي الاعتناء به وبنظافته وإطعام الأسماك بداخله، حتى بمظهره فلقد أحضروا له الأنوار والزينة لكن كل هذا لم يشفع لهم فلقد ماتت كل الأسماك وكلما ابتاعوا غيرها ماتت حتى سئما وتوقفا عن شراء الأسماك وظل الحوض خاوياً لكنه مازال مزين بالأنوار، وبمجرد أن قالت ماتت أصابتني حالة من الذهول كيف لمخلوق اقتنيته ليضفي على حياتنا شيء من البهجة يصبح مصدر للحزن! هذه الفكرة فى حد ذاتها أرعبتني وجعلتني أكره حوض السمك وانقبض منه، كيف يموت مخلوق فى بيتي بعد ما كان مصدر سعادة! أعوذ بالله!

وفي يوم قررت أخد كورس وبمجرد دخولي المركز رأيت حوض سمك وقررت ألا أرى حوض السمك هذا نهائياً، وبالفعل تجاهلته تماماً وكنت لا أراه تقريباً حتى وقعت عليه عيناي ذات مرة وإذا بي أرى منظر يدعو للقرف حيث الأسماك داخل الحوض تجري كل منها وكأنها أعداء وفمها مفتوح وكأنها وحش كاسر تجرد من كل المشاعر وهو ينقض على فريسته، بالطبع لم تكن هناك فريسة وكل ما هنالك طعام السمك الذى هو عبارة عن بودرة لكن منظر الأسماك حرك بداخلي هذا الشعور، وجعلني أشعر أن هذا الحوض يمثل المجتمع المادي واللهث وراء الماديات والتجرد من الإنسانية وأننا مجتمع استهلاكي حياته كلها الاستهلاك والمادة، وأن المشاعر الجميلة التي كنت أشعر بها وأنا طفلة تشاهد حوض السمك، ماتت وحل محلها نظرة سلبية تماماً تجاه هذا الشيء.

وبعد فترة صرت أنظر للأمر برمته نظرة أكثر عقلانية بعيداً عن المشاعر وقبضة القلب والقرف وكل هذه الأشياء، فوجدتني أكره حوض السمك لأنه أصبح بالنسبة لي شكل من أشكال الطبيعة المعلبة يلهينا عن الجمال الحقيقي بجمال مزيف معلب كحديقة الحيوان التي تظهر فيها الحيوانات كالبلهاء والسيرك الذى يستعبد الأسد (ملك الغابة) ويحوله لقطة والطيور الملونة التي تصرخ وتئن داخل أقفاصها، لطالما هالني منظر تلك الطيور وهي تفر من الأقفاص كلما سنحت لها الفرصة، ليتنا تركنا الطبيعة كما هي ولم نسعى لتعليبها فبهذا فى رأيي فقدنا جزءً من إنسانيتنا بعدما أفقدناها جزءً من طبيعتها.