هيثم عمر
هيثم عمر

د

نصر لا لزوم له!

أنطون تشيخوف، أديب عظيم ذو فضل كبير على الأدب الروسي خاصةً وأدب القصة القصيرة عامةً… قرأت له العديد من القصص القصيرة وبعض الروايات. منها حكاية ” ثلاث سنوات “. والتي كانت قدوةً لي في بعض كتاباتي، متتبعاً أسلوبه في رواية الحكاية والانغماس في شخصياتها وأحداثها…
ولم تكن هذه الحكاية أقل شأناً من سابقاتهاـ لكن كمية المدح الذي تلقته، وكمية مرشحيها لي كأحد أفضل الحكايات التي سأقرأها لهذه السنة على أقل تقدير… دفعتني إلى أن أتبنى توقعات غير عادية، وكأن الكتاب سيحوي ما قد يمحق كل سيء حل علينا خلال العام 2020. لكنها حكاية مكررة دافعها الحب، يتخللها نقاش لبعض قضايا الدنيا الأساسية كـ: الفرق بين الغني والفقير؛ طمع الرجال بالنساء كأنهن مجرد أجساد دون عقول أو أحاسيس؛ وحب المال، جريمة الإنسان الأزلية…

فأبطالها ” تسفيبوبيتش ” و ” إيلغا ” عازفان متجولان… نهش الفقر لحمهما… ومحق السوط وحوافر الأحصنة كل ذرة كبرياء داخل جسديهما…

لقد جف حلقي من أكل الخبز واللحم الجاف، فقد مضى زمن بعيد منذ أن تناولت شيئاً ساخناً، فلو خيرت اليوم بين عشر سنين من عمري أو وجبة من حساء ساخن كهدية، فسوف أختار الحساء الساخن.

{ نصر لا لزوم له، 11 }

يغنيان بصوت بشع لا يشبه في نشازه إلا صوت جيتار قطعت أوتاره، لكنه مازال صامداً يهز الوتر لعله يرتبط بنصفه الآخر يوماً ما… يتنقلان بين الحانات وبيوت علية القوم من جنرالات وبارونات… مستغلين حضور الخمر وغياب العقل عندهم…

لولا وجود المخمورين في العالم لما تطورت الموسيقى! صلي وابتهلي يا عصفورتي أن يكون المستمعون إلينا مخمورين!

{ نصر لا لزوم له، 12 }

وبينما هما تائهان، هائمان في الدنيا… إذا بالكبرياء يستفيق وإذا بالضمير يسخن ويضرب قلبها ( إيلغا ) ساخطاً على الدنيا وحالها، مندداً بوجوب العقاب على الظالم ومطالباً بصفعة تسترد من امرأة على حصان أسود وجهها بالحقد والكبرياء مطلي واسمها بلقب ” بارونة ” مسبوق…

تكشر وجهها… تزم شفتيها… وتهيم هنا وهناك بحثاً عن حق ضائع لا سبيل لإيجاده…

هل فقدت عقلك يا بنيتي؟ كوني واقعيةً، فالخشب لا يكون فولاذاً! والعين لا تعلو على الحاجب! والفأر لا يلد إلا فأراً! ماذا تتوقعين من امرأة نشأت وترعرعت على الكبرياء والكبر؟ أن تتصرف كالملائكة؟

{ نصر لا لزوم له، 26 }

كان هذا حالها قبل أن تلتقي في الغابة بالكونت ” أرتور فون ” الذي عاهدها على الانتقام لها وأن يلحق باسمها لقب ” الكونتيسة إيلغا ” مقابل مليون قطعة نقدية…

بين المسارح والمطاعم… مستغلة شره الحيوان الأشد خطورة ” الإنسان ” لجمع النقود؛ بأقصى وأشد الطرق…هكذا نجحت هي في أن تسد ما عليها من العقد والاتفاق، وبقي نصفه هو…
استطاع الكونت أن يلحق باسمها لقب ” الكونتيسة إيلغا “، لكنه أخل بما بقي من العقد… فالانتقام حق للمظلوم من الظالم. إلا أن الدنيا ظالمة بطبعها، لا حق فيها لأحد…

تقتل ” إيلغا ” نفسها بالسم نفسه الذي أنهت فيه حياة عاشق من بين المئات المكومين أمام مقصورتها أو غرفتها كما تسمى داخل المطعم… قتلت نفسها بين يدي ظالمها وزفرت آخر أنفاسها بين حضنها.

رفعت إيلغا يدها إلى عنق الكونتيسة، فمالت الكونتيسة نحوها وقبلتها، همست إيلغا:

 – أنا أموت، فقد قمت بتناول المورفـ…على الأرض…

{ نصر لا لزوم له، 152}

” نصر لا لزوم له ” أنسب ما قد يصف الحكاية… فنصرها ” إيلغا ” المزعوم لا فائدة منه… وامتلاكها لقلب الكونت لم يدم طويلاً… فالخمرة سرقت عقله والموت سرق روحها من الدنيا بين يدي ظالمتها…

الحكاية جميلة… رزينة الأحداث والقوام… قليلة الوصف وكثيرة المشاعر… قريبة إلى القارئ وواقعه… وترقى إلى مستوى أديب عظيم كتشيخوف؛ فقد قادني بقدرته العجيبة إلى أن أذكر الشخصيات بألقابها محتقراً عديم الألقاب منها، وأنا القارئ المحايد هنا.

لكنني أعجب لأقلامنا التي ما عادت قادرة على أن تعرض قضايانا وأحلامنا إلا عبر حكايات الحب والهيام…

صراع الأحبة، هكذا يجب أن تعنون حكاياتنا.

فلا يحلو لكاتب أن يعرض معاناة الفقر والظلم إلا عبر مشاعر الحب والعشق والخيانة… ولا تستقيم أمانينا إلا عبرها… ولا يطل قارئنا إلا إن تحسس أنفه نفحات الحب وعطر النساء…

فهل تنقاد أقلامنا مع تيارات الزمان وأفكاره، دون أن تخلق إرادتها الخاصة؟!!

وهل أصبح العشق قضيتنا الأساسية… وما دونه ثانوي؟!!