طارق محمد
طارق محمد

د

علي الورديّ.. الواعظ الأمين


لو أنَّكَ فتحتَ كِتاباً لا على التَّعيين و شَعَّرتَ فجأةً أنَّكَ في مهبِّ الرّيح و أنَّ حرباً بدأت للتَّو في رأسِك، و قرأتَ عبارةً من قَبِيل “أمّا أولئك الّذين يقرأون في الكتاب ما هو مسطورٌ في أدمغتهم فالعياذُ بالله منهم” و شعَّرتَ بالفرح يتسلّل إلى قلبك، بما يبدو أنَّكَ سوف تُخلَّق من جديد، هذا بالضّبط ما ستشعرُ به عندما تقرأُ علي الورديّ الواعِظ الأمين .

رائد التّنوير والمؤرِّخ الاجتماعيّ، بما يمكن تصوّرهُ و تتبُّعهُ أن هذا الفاتح الثَّقافيّ و الانقلابيّ الخطير كان شاهداً على أحداث قرنٍ تقريباً، أطلق على سيرة حياته (سينما بغداد) أعطى رأيه الدَّقيق في كلِّ ما قضى من شؤون، وفي اختياره هذا طرفةٌ أدبِّيَّةُ و علامةٌ أصيلةٌ على التّفرد، و لكن هذه الأرجوزةَ الورديَّة اختفتْ معه إلى الأبد.

طفولة علي الوردي

سجَّل والِدهُ يوم ولادته( 23 – 1 – 1913 م ) على الصَّفحة الأولى من نسخةٍ قديمةٍ للقُرآن الكريم، وأطلق عليه اسم (علي) حُبّاً بالمولود الّذي جاء عَشِيَّة عيد الأضحى، بما يبدو أنّ الدُّنيا لم تسعهُ ذلك الحين، وسعادته به كانت أكبر من أنْ تُقاس، لكنَّ أكثر ما كان يثيرُ في طفولته هو والدهُ الصَّارمَ والحزين، الّذي لم يبقَ له من الأولاد إلّا (علي) بعد أن أخذ منه الموت جميع أبنائه، كان الأبُ ينتظر منه الحفاظ على موروثه الوحيد (محلَّ العِطَارة) ، فجدّ الأسرة عمل مع بعض أبنائه في حرفة تقطير ماء الورد ومن مهنته هذه جاء اللّقب، والدّكتور علي الورديّ كان أوّل من أضاف ياء النّسبة إلى لقبه.
إلا أنَّ الورديّ الصّغير شعر ومنذ زمن مُبكِّر بأنَّه لم يُخلَّق لكي يعمل عطَّاراً فشاكس والده كثيراً، وبمشاكسته هذه علامةٌ أخرى أنَّ الولد حينما يكبرُ سوف يقلب الدّنيا رأساً على عَقِب.

قد أمضيتُ في مهنة العِطَارة نحو خمس سنوات، كانت تلك أبشع حقبةٍ في حيَّاتيّ وكنت في تلك الفترة اجتاز مرحلة المراهقة والبلوغ، ولعلّني لا أغالي إذا قلت بأنّ شخصيّتي نمت على أساسٍ من المرارة لا حدَّ لها.

شخصية علي الوردي

كان شديد الانجذاب إلى قراءة الكتب والتَّرددِّ على سوق السرايّ ببغداد يبحثُ عن الكتب الجديدة و التُّراثيَّة القديمة ، وكان لحضوره في الجوامع والحُسينيَّات والمواليد النَّبويَّة، وجلوسه في المقاهي الشَّعبيَّة والاستماع إلى أحاديث الشّيوخ و كبَّار السِّنِّ وذكرياتهم وقصصهم أثرُ الفراشة في تكوينه الفكريّ والنَّفسيِّ، و تعميق شخصيَّته العلميَّة و نزعته السَّاخرة.
بيد أنَّه لم يكفَ عن عنادهِ المحبَّب، وكانت نقطة التَّحوُّل الأكبر في حياته عندما ذهب الطِّفل دون معرفة أبيه وسجَّل في مدرسة ابتدائيّة اُفتتحت في الكاظميَّة، و حدث الشَّيء الأهم في الإعداديَّة المركزيَّة حين رشحته وزارة المعارف لتدريس مادَّة ( أحوال العراق الاجتماعيَّة ) فاعترض الورديّ و رفض تدريسها، في حين لم يكن لاعتراضه من معنَّى، فأراد أن يقف في وجه التَّقادير لكنَّها لم تُلقِ له بالاً و أعطته كنوزاً معرفيَّةً رغم نكرانه و جحوده، و كانت مدخله العريض إلى علم الاجتماع و حصوله على مبتغاه، حين أعلنت وزارة المعارف العِراقيَّة عام 1939 عن بعثةٍ دراسيَّة إلى الجامعة الأمريكيَّة في بيروت باختصاص التِّجارة والاقتصاد، إلا أنَّ روحه المتمرِّدة تطلب المجد في مكان آخر و توقَّه كان إلى عالمٍ آخر، و لحسن حظ الوردي أنَّ التَّقديرات الإلهيَّة أو ما يسمِّيها هو الصَّدفة بأن رشحته وزارة المعارف مرَّةً أخرى في بعثةٍ دراسيّة إلى جامعة أوستن إحدى أعرق وأشهر الجامعات الأمريكيّة، و حصل على شهادة الدُّكتوراه بتقدير امتياز مع منحه شهادة مواطن شرف أمريكيّ و مفتاح مدينة نيويورك.

سجالات الوردي

صدر ضِدَّه مئات المقالات وعشرات الرَّسائل و الكتب، وكانت خمسة منها في كتابه الشَّهير (وعَّاظ السَّلاطين)، و وصل الأمر إلى حدِّ تهديد الكاتب الأكثر مبيعاً بالقتل.
كان علي الورديّ صاحب نكتةٍ ، سريع البديهة، حاضر الذِّهن، بسيطاً في أسلوبه، يغمز و يهمز و لا يستثني أحداً، و من مشاركته للنّاس تركّبت شخصيَّته تركيباً غرائبياً، يدس السُّمَّ في الدَّسم بأسلوب أدبيٍّ جرِّيء لم يألفه الإنسان العراقيّ مُتَّهماً إياه بازدواج الشَّخصيَّة و التَّناشر الاجتماعيّ فاتُّهم الوردي كذلك بالخيانة و العمالة، و من المثير للضَّحك أنّه عندما قرأ كتاب (كيف تكسّب الأصدقاء) للكاتب ديل كارنيجي شعر بأنَّه يكسب الأعداء و يسير في الطريق الخطأ قال: «حقَّاً لقدّ كنت حماراً ولا أدري».