عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

د

المرأة.. المرفأ الذي لا مفر منه!

لا تُترك المرأة في حالها أبداً.. سواءً خيراً أو شراً.. مدحاً أو قدحاً.. المرأة دائماً حاضرة، في قلوب مَن يحبها ولسان مَن يكرهها..

في سطور الشعراء وبحور الكتاب المائعين..

في إعلانات الطرقات..

في المكاتب خلف نشرات الأخبار..

ضمن برامج التي تقدم وصفات الحلويات الشهية..

في النشرات الجوية التي نراها لكل شيء عدا النشرة الجوية..

المرأة دائماً موجودة..

هي هناك دائماً..

ولهذا قالها عبدالرحمن منيف في إحدى المرات ملخصاً: «في حياة كل رجل امرأة.. قد تكون أماً.. أو أختا.. أو حبيبة.. أو زوجة.. أو صديقة، هناك دائماً امرأة».

المرأة موجودة..

كتجريد أو كفكرة عائمة.. أو كتوصيف للحالات السابقة جميعها..

هي حاضرة دائماً..

بمختلف صياغات اللغة، وحالات نصب ورفع وجزم الأفعال الخمسة وصيغ الخبر والمبتدأ..

هي المرفأ المحتوم إذاً، الذي سترسي فيه كل سفينة تائهة.. وكل زورق صغير مُتعب حنّ إلى الراحة بعد سفرٍ طويل!

ليستقر على شاطئها، وحينها..

بعضهم يبقى وينسى نفسهُ.. بعضهم يغادر.. وبعضهم يرحل وهو ينظر للخلف.. المهم أن الجميع سيرسون.. في النهاية لا أحد سيهرب من هذا المرفأ.. لا أحد سينجو منه!

أحياناً أستغرب من وصف العالم الذي نعيش فيه بالذكورية، لأنه أبعد ما يكون عن ذلك!

هناك قوانين وتشريعات ومبادئ تفضل أحدهم على الآخر هذا موجود.. لكن كنظرة عامة.. المرأة هي كل شيء.

المرأة هي المحيط.. وداخله يوجد زورق صغير عليه مجموعة من الناس، وضعواً قوانينهم ليفضلوا أنفسهم لا أكثر!

لكن في الخارج..

في المحيط..

المرأة هي كل شيء..

الطبيعة دائماً كانت هي الأم..

جميعناً خرجنا من أرحام.. أين توجد تلك الأرحام يا تُرى؟
سواءً كنت ذكراً أم أنثى أم صغير وحيد قرن.. لا يوجد فرق، جميعنا خرجنا من أرحام.. جميعنا خرجنا من المرأة.. جميعنا انطلقنا من المرفأ.

قد يكره المرفأ بعض الأشخاص لا سيما الفلاسفة.. لكنهم سيرسون فيه! قد يؤذوه.. نعم.. قد يسوّدوا نهاره.. نعم.. لكنهم سيرسون فيه حتماً!

عندما أحب نيتشه عشيقته الشهيرة التي لم يستطع لها وصالا، لو سالومي.. سألته عن حبها ولأي درجة يفعل ذلك..

فما كان منه إلا أن أخرج عودة كبريت وأحرقه ودسّه في باطن كف يده!

إلى أي درجة تحبني يا فريدريك؟

أحبك حدّ الألم!..

لكن لو رفضت نيتشه ولحقت عشيقها.. ونيتشه نزحَ معتزلاً في ضواحي سويسرا مع نبيه زرادشت.. لينزل بعدها من غيمة وحدته على ظهر الإنسان الخارق، ليُقرر أن يحرق العالم بكل مرافئهِ!

نيتشه حاول أن يرسو في المرفأ!

ذهب إلى لو..

وصلت سفينتهُ إليها كما ستصل سفن كل من يحب وأحب..

الفرق أن سفينته كانت محملة بمتفجرات شديدة.. زنادها حساسية إنسان وقف بين الجنون والعبقرية.. وكان فتيل الاشتعال هو الرفض!

أحبها حدّ الألم!

وهي ترنحت بين يدي كُبراء المثقفين حينها..

ضغطت على الزناد دون أن تدري..

انفجر المرفأ..

اشتعلت شرارة العالم.. وبدأت حروبنا العالمية..

لتظهر النازية والستالينية والموسولينية وغيرهم..

كما الدملة المليئة بالقيح.. ما إن تجرحها، حتى تخرج لك ألوان شتى من السوائل التعيسة..

هكذا حدث..

ذلك ما خلّفه انفجار تلك السفينة في المرفأ..

يُقال أنّ العبقري آلان تورنج أنقص من مدة الحرب العالمية عدة سنوات بسبب كسره لشيفرة الإنيجما الألمانية، وقدرة الإنكليز بعدها على معرفة تحركات السفن الألمانية.. وهذا صحيح.. لكنه غير كامل..

كان بإمكان تجنب الحرب كلها..

تجنب الرايخ الثالث بأصحابه!

لو كانت لو كما المرفأ الذي أراده صاحب الشنب الكث!

حينها..

لما كان هناك إنسان أعلى.. ولا أدنى..

ما كان هناك زرادشت.. ولا كان هناك هتلر يقرأ أعماله الكاملة، ومن ثم يهديها لموسوليني..

كان كل هذا قد تم تجنبه..

ولربما كان نيتشه نفسه قد حلق شواربه ربما!..

هي إذاً كفراشة الفوضى الشهيرة..

تلك التي تهز بجناحها فيتداعى كل شيء..

هزت لو بجناحها عندما حاولت سفينة ألمانية حساسة جداً أن ترسو..

سفينة مات والدها في عمر صغير، وربتها أمها بعد ذلك..

فحدث الانفجار..

وراح المرفأ..

وراحت لو..

ومن ثم لم يبقَ أحد!

يُقال أن كبير آلهة الأوليمب زيوس.. خلق كائناً مزدوج، رباعي الأطراف وذو رأسين.. لكن هذا الكائن أزعج الآلهة وعاث فساداً.. فما كان من زيوس إلا أن قسمه نصفان!

وكان من قدر ذلك الكائن..

أن يكون نصفاً أنثوياً، ونصفاً ذكرياً..

ومن لعنة هذا الكائن..

أنه يجب أن يقضي حياته كلها بحثاً عن نصفه الآخر..

بحثاً عن ذلك المرفأ..

عدا ذلك.. ستجده تائهاً غير مستقر.. يقفز من مكان إلى آخر..

وفي حال فشله.. فشل أن يجد مرفأه المُكمل..

ستجده يُعلل كلامه بشماعات الأوهام الزائفة..

شهادات دراسية.. أموال كثيرة.. الرغبة في الجموح.. ألا تغادر الحفلة باكراً..

وهلم جراً..

ماذا لو كانت كل هذه أوهام؟ كالطالب الذي يرسب ويعلل سبب ذلك بصعوبة الأسئلة لا بعدم دراسته هو!

هذا المرفأ لا خلاص منهُ.. مهما ذهبت وطولت وقصرت.. هذا المرفأ يحاصرك من كافة الاتجاهات..

فأنت خرجت من رحم الأم..

لتنتهي في رحم الأرض.. بطن الطبيعة الأم أيضاً..

هو مرفأً.. هي امرأة.. دائماً موجودة..

بمختلف تمثيلاتها..

بمختلف ترتيبات الشعر وعدسات العيون وصورة كوب القهوة مع اليد الناعمة.. عندما يكون الكم طويلاً ليغطي منتصف كفها..

لماذا تغدو هكذا صورة جميلة؟

لماذا يُعطي ذلك الكم الطويل جمالاً للصورة أكثر بكثير من لو كان قصيراً؟

هناك شيء ما غير مفهوم..

المرفأ غريب.. ومحاولة فهمه متعبة.. أنت فقط ترى نفسك مشدوداً لتستقر.. لأنك متعب!

حتى أولئك الذي يبررون تيههم الطويل في البحر تحت عناوين حب المغامرة و”صياعة الشباب” وأول العمر.. في النهاية سيرسون..

في مرفأ الأم..

هو أمر لا بد منه..

وهنا تتحطم كل حُريات الاختيار ونظريات سام هاريس ونظرائه..

لا حرية خيار لنا سوى في التوقيت..

تريد أن ترسو اليوم أم غداً؟ أم بعد أن تحجز قطاراً يمر من المانيا أثناء جلسة التصويت لانتخاب الحزب النازي؟

الخيار كان دائماً في أن ترسو الآن أم بعد حين.. أما ألا ترسو مطلقاً فهو غير موجود..

فإن لم ترسو عمودياً.. سترسو يوماً ما أفقياً..

وحتى حدوث ذلك..

ستكون المرأة دائماً موجودة كمرفأ ينتظرك..

كأم.. كأخت.. كزوجة.. كصديقة.. كحبيبة.. كطبيعة.. كرحم نخرج منه..

دائماً موجودة.

مرفأ لا بد منه..

أو بشكل أكثر دقة..

مرفأ لا مفر منه!