دانية عوض
دانية عوض

د

اختيار الأسفار

مهن الرسل عليهم السلام: الخياطة، رعي الغنم، الحدادة.

كلها مهن ثابتة في كل زمان ومكان ومهما تقدمنا بالزمن أو تأخرنا نجد أنها مهن لا تكون لأكابر القوم أبدًا 

ماذا نفهم من ذلك؟

هل هناك أصل للنجاح والثروة والرفعة في المناصب والشأن؟ أم الشأن كله فيما يُجيد الإنسان ويُرزق منه!

أبدًا لا أقصد أن يزهد صاحب المبدأ في أن يكون له مال، بالعكس لو كان أصحاب المبادئ أصحاب أموال لصح بعض الأمر، لكن كل ما تحمله هذه هو “الجهد المستمر المتقن”.

كل تلك الأعمال لا يوجد فيها احتمال لتطاول أو تعاظم الثروة، أعمال تقدس رأس المال الأساسي المستمر الذي يحمل معه هدوء في النمو، لماذا إذًا تعتبر اليوم الثروة هم من الهموم العظام؟ والخطوب الجسام التي يضرب بها المرء ركائبه ونفائس أوقاته.

وهذا الصراع كله يشوش علينا أن نفكر في حقيقة القضايا الحقة القضايا التي يجب أن نلبس من أجلها لباس المحاربين. 

هل لو قال طفل اتمنى أن أكون خياط أو أتمنى أن اكون راعيًا هل سنشجعه..؟

مرة كنا في خيمة أبها السياحية الدعوية بالتحديد في خيمة الخدمات، وهي المسؤولة عن الساحة للمُخيم، كان يوجد طفل ساعدنا بِكُل إخلاص واعجبني سألناه ماذا تريد أن تكون حين تكبر، أجاب: “عامل نظافة”.

وقتها اضحكنا ذلك بشدة وطلبنا منه أن يغير من خطته لقد كان طفلاً ذكيًا على كل حال، أتمنى له مستقبلاً مشرقًا 

لكن لماذا هذه الأفكار مزروعة فينا؟ 

كم ستشغلنا أفكار الركض هذه عن ما تبقى من حضارتنا والنهوض بأوطاننا! كم نكثر الركض ولا نتأمل جيدًا فيما حولنا! في ماذا يجب أن تحوي أفئدتنا! هل ستنجو في هذه الحياة المادية إن كنت من أصحاب الأعمال التي ذكرت للرسل عليهم السلام؟

لن تغطي النفقات إلا الأساسيات، ليست مادية بل هو أقرب إلى الاستهلاكي. تستهلك طاقتك وتستهلك مالك وتستهلك روحك وتستهلك عمرك وبعدها عائلتك!

هل تكون الأعمال التي عملها الرسل عليهم السلام إلا ما يُنجي الروح والحياة المعنوية؟

إن لنا حياتين حياة مادية وحياة أدبية روحية، فتستطيع فرنسا القضاء على الحياة المادية بقتلنا ونفيّنا وسجننا وتشريدنا، ولن تستطيع القضاء على عقيدتنا وسُمعتنا وشرفنا فتحشرنا في زُمرة المُتملقين إننا قرننا السكوت. 

مقولة للشيخ عبدالحميد بن باديس 
من حلقة ٢٧ برنامج ابن باديس حسن الحسيني

فهناك حياة مادية وحياة روحية أدبية، الحياة المادية تتأثر بالماديات تتعذب تتأذى، والحياة الروحية هي الحياة التي لايمكن لشيء أن يمسها.

اختر منهما ماذا تريد أن تنجو به. 

مرة كتب حُلم حمص أن صاحب كتاب الأب الغني والأب الفقير ذكي، حيث أنه اصدر كتابه وفي ما بعد كتبه عن فكرة الثروة التي هي فكرة مطلوبه عند البشر كافة لتكون فكرة البحث عن الثروة بحد ذاتها مُسوقًا جيدًا لكتابة وكُتبه بعدها.

لماذا يطلب البشر الثروة، ليست متطلبات الحياة؟

إن الانسان من أجل الوفاء بمتطلبات المفروضة ولأجل تأمين مستقبل ومن أجل تخيل أن يكافح لهدف سامي يحتاج إلى تلك الطريق المؤدية للثروة. 

ومن شب على شيء شاب عليه.. من امضى حياته لحاقًا بروائح المال ومِرارًا بوعثاء الطريق قصدًا له دون أن يرتكز في سعيه للمال لهدف ومبدأ يَنْصُبُ عليه خيمته في صحراء تيهه لن يجد في نهاية عمره مستضلاً من الحياة الروحية التي تنعمه حيًا وميتًا.

ابتغاء الثروة ليس ممقوتًا  لكن على أن لا يطغى على مسؤوليات وحدود الشرع وأن لا يكون مقصد بحد ذاته إنما يكون وسيلة لتحقيق مبادئ. ووحدة السعي لتحقيق ثروة بحد ذاتها دون النظر للمقاصد الصحيحة هو كارثة أخلاقية.

كان دائمًا هناك ارتباط كبير بين الزُهد وأصحاب المبادئ، وفي هذا الباب اذكر جدي لأمي رحمه الله حيث أنه رفض حتى تقاضي المال على التعليم أو الكتابة في الصحف، وكان منهجه الزهد وأن هذه أشياء من حق الأمة عامة ليس له أن يأخذ عليها مالاً.

غياب السعي للمال كان شيء راسخًا، لكن هناك برنامج شاهدته أثر في داخلي وفكري لأنظر لكسب المال بمنظور مُختلف، ولأشعر بأن أصحاب الأهداف يجب أن تكون لديهم ثروة ليس من أجل الرفاهيات، لكن من أجل أن يغيروا في مجتمعهم تغييرًا سريعًا وقويًا.

هل ستقود خطوات السعي للثروة صاحب المبدأ عن صحيح قصده؟ أم أنها تُسرع عجلة سيرة وتهبه التوازن؟ وتُقلل عليه بعض التكاليف؟

لكن هذا لا يقلل من رفعة الأشخاص الذين ابتعدوا عن هذا الصخب لأجل تركيزهم على أهدافهم واتخذوا المبدأ هو ثروتهم وربحهم يحافظون عليه من النقص ويسعون في كُل يوم في أن يزيدوا من أرباحه ويزينوه ويوقدون قلوبهم مدفأة له أملهم هو دافعهم الذين سعو لنشره وعلمهم مُرشدهم.

لكن ماذا لو توافق الاثنان، أصحاب الثروات وأصحاب المبادئ استشارةً ورأيًا من أجل الرُقي بأمتهم وحضارتهم؟ ألا يكون ذلك جميلاً وراقيًا ويعدل من مستويات نقصنا؟ نحن لا نشعر ربما بتلك الأيدي التي تبني والتي تُضحي ولا تنتظر..

تلك الأيدي التي تلطخت بالطين من أجل بناء الصرح ومن أجل تزيين الوجهه والواجهة، ـليست محسوبة عند الله إن الله لايضيع عملها! مُشرقة بلدانهم وسعيدة بهم، هانئات أمهاتهم وفخر آبائهم!

 أولئك الذين ساهموا ولو بلبنة واحدة من أجل الصرح الكبير، ولو كانت لبنتهم أنفسهم!

طاب بنائهم وطاب جلسائهم وطابت أنفسهم من أنفس مَلئوها أملاً فزانت لهم وزانت الدنيا في عيونهم، وبقي لهم جانب الهم في نجاتهم ونجاة أمتهم!

وعلى لوعه الهم ذاك وثقله إلا أنه هم يُحييهم ويزيدهم شرفًا!