هبة الله حمدي
هبة الله حمدي

د

عن الوحدة والمرضى وأشياء أُخرى..

أعمل في وحدة صحية ريفية صفيرة في إحدى ضواحي المحافظة التي أقطن بها، ولهذه الوحدة وللبشر فيها قصص وحكايا تتجدد مع كل إشراقة، تستحق أن يُفرد لها العديد من الصفحات ويُعبأ لها مداد الأقلام..

يزور قسمنا – قسم العلاج الطبيعي- مرضى الخشونة وآلام أسفل الظهر بمسبباتها المختلفة مروراً بمشاكل الأعصاب والتي تعتبر من أصعب الحالات كالجلطة الدماغية والنزيف وغيره، وفي قسم الأطفال تكون حالات الشلل الدماغي والشلل الرخو الحاد ومئات أمراض تم تشخيصها وأخرى لم يتم، وبحكم أننا في وحدة ريفية بسيطة والأهم أنها تابعة لوزارة صحة محدودة الميزانية؛ فإنها فقيرة في المعدات والتجهيزات خصوصا في بند أجهزة الترددات الكهربائية المسئولة عن التنبيه العصبي والعضلي وغيره.

نظرًا لأن الوحدة تقبع في موقع غالبية قاطنيه يندرجون ضمن فئة محدودي الدخل وكذا فإن للجهل دور كبير إذ وحتى المقتدرين أحيانا ما يُؤثرون الاماكن المجانية أو الرخيصة ظنا منهم بأن الخدمة المقدمة واحدة فبند الصحة لدى كثير من الشعب المصري لا يقع في نطاق الأولويات ويمكن ان يكون “المصيف” ذا أولوية أكبر، نظرًا لذلك كله يتحتم على الأطباء استقبال المرضى ومحاولة تقديم أقصى ما يمكن تقديمه في ظل ضيق ونقص في المعدات..

عن البسطاء وفي قولٍ آخر المهمشين..

عندما أذكر البسطاء فإنني أتذكر “الحاجة نادرة ” ومدام سحر وأستاذ جمال وعم ابراهيم وغيرهم الكثير، ولكل منهم قصة وأحداث كثيرة إذ تقلبوا في الحياة وتعرضوا لصنوف عدة من النوازل أقف أحيانا مشدوهة أمامها، وبصفتي شخصية مُنصتة فإنني أستمع إليهم بهدوء وطول بالٍ ما استطعت إلى ذلك سبيلا خلال الجلسة، ما يجعل المرضى مرتاحين رغم أن العلاج غير وافٍ في النهاية..

الحاجة نادرة بخشونة مزمنة في مفصلي الركبة لا تفتأ تذكرني كل مرة “والله أنا ما برتحش الا في جلستك يا دكتورة ببقى عايزة آجي أعمل معاكي الجلسة انت بالذات ” ولهذا سبب لا علاقة له بالجلسة وإنما بحكايتها التي سردتها يوما ذات تذَكر علي وهي أن ابنتها توفيت إثر خطأ طبي ساذج ذلك أنها حسب قولها انخفض ضغطها ذات يوم، سريعاً ذهبا للمشفى وتم تعليق محلول لها توفيت بعده بساعتين وقالت أن الطبيب أخبرها بأن هذا المحلول كان خطأً تعاطيه إذ لم يساهم في رفع الضغط بل ربما خفضه وعليه فقد وافتها المنية، ورغم عدم دقة الواقعة طبيا إلا أنها أجزمت بأنه كان خطأ طبياً وأن بعض الناس نصحوها بأن ترفع قضية تعويض، حكت هذه القصة بكثير تأثر ودموع منزلقة، انصدمت وقتها من كارثية الأخطاء التي ترتكب في بلادنا حاولت تهدأتَها مُقدمة الكثير من التعازي وكان التأثر باديا علي، بعدها توطدت علاقتنا ورغم علمي أن حالتها مزمنة ومع وزنها الزائد الذي ليس يسيرًا نزوله كونها مريضة بأمراض أخرى لا محل لذكرها إلا أنني أحاول تعزيتها وتقديم النصح ما استطعت إلى ذلك سبيلا..

أما سحر ذات الثلاث أعوام بعد الثلاثين فإن لها قصة مختلفة إذ زارت إحدى المشافي الكبيرة لعمل حقنٍ مجهري لم تنجح وعوضًا عن ذلك خرجت بجلطة في الدماغ أثرت على جانبها الأيسر! نفسيا لم تكن سحر مستقرة إذ وبالطبع لازمها الكثير من خيبة الأمل، كانت تنظر لي بكثير أملٍ وتقول “يارب أجيب بنت يا دكتورة، هسيميها على اسمك “أبتسم مفكرة في حالها، مر عام على اصابتها بالجلطة وقدر التحسن لم يكن جيدًا ربما تعيش عمرها بإعاقة في جانبها الأيسر و”زكة ” في المشي..

الكثير من الحكايا التي تُعري وجه الحياة الموجع، وتَدني مستوى الطب للأسف في الخاص والعام على حدٍ سواء، إلا أنه وياللغرابة الكثير من المرضى لدينا ويشفون شفاءا تاماً أو نصل إلى سبيعين بالمائة مثلا من التحسن وهذا أمر ممتاز إذا ما قورن بضعف الموارد، وأنا إذ أرد ذاك الأمر فإنني أرجعه إلى راحة المرضى حين يجدون طبيباً أو مقدم خدمة بشوشا يستمع ويحاول أن يقدم كل ما يملكه فينعكس ذلك نفسياً والطبيعة البشرية في تجاوبها مع المرض غريبة والشواهد على ذلك كثيرة ومتعددة.

قدّموا بحبٍ، لا تضجروا من البشر أيا كانت الفئة التي تتعاملون معها فالطبيب إذ أحسن للمريض تعافى وهون عليه رحلة العلاج المؤذية بطبعها والمدرس إذا تبسم في وجه تلامذته أخرج طلاباً أسوياء والعامل والزارع و…. ،أحسنوا ما استطعتم إلى ذلك سبيلا، وتذكروا دوما أننا لم نولد أطباء أو مهندسين وأننا احتجنا ذات يوم كلمة طيبة، اعملوا للحب وبالحب وأنصتوا، فالبسطاء بحاجة إنصات أكثر من أي أمر آخر والإنصات ليس مناً عليهم، فكلماتهم حينا حكم وفلسفتهم في الحياة صائبة، فكل الحديث يستحق أن يُقال وكل الحكايا تستحق أن تُسمع.

دمتم رحماء وجعلنا الله وإياكم عزاءً لعباده..