عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

د

عندما تكون قوياً، يحترمك الجميع

«جئت لا أعلم مِن أين ولكني أتيت. ولقد أبصرتْ قدماي طريقاً فمشيت. وسأبقى ماشياً إن شئت هذا أم أبيت. كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لستُ أدري.» – إيليا أبو ماضي

نجا الكائن العاقل عبر رحلته الطويلة المليئة بالمصاعب عبر قانون واحد وحيد نصّه البارز التكيف مع البيئة من خلال رفع مستوى المرونة. فإن كان العاقل صلباً بشكل زائد عن اللزوم يُكسر، وإن كان ليناً بشكل يفوق المطلوب يُعصر. كان الحل دائماً في المرونة؛ بما تستوجبه بدورها مِن تكيف مع الشروط الجديدة بغض النظر عن مدى خطئها وصحتها، فائدتها أو عدمها.

إن ابتعد العاقل يفترق، وإن اقترب كثيراً يحترق! كان دائماً الكائن الذي استطاع أن يضبط الأوساط المحيطة منظماً نفسه داخلها، مُختاراً الحلول المعتدلة، واقفاً في نقطة المركز الصحيحة، بدون شد زائد أو تراخي. كان دائماً مرناً. كان دائماً مُتكيفاً.

إلا أن للتكيف وجه آخر كما للقمر جانبٌ داكن. إذ لا يقتصر فقط على المرونة، بل يستوجب باباً آخر يُسدل عليه الستار في غالب الأخبار، وهو جانب القوة.

وبالحديث عنها، هناك خلطٌ كبير وسوء مِن الفهم يحصل. لذلك لابد من توضيح بعض السلوكيات البشرية وما هي التأصيلات الحقيقية لها.

عندما يُواجه الحجر بالحجر تكون حينها الاستجابة البدائية الحيوانية. عندما يُواجه الحجر بكلمة تكون حينها الاستجابة الحضارية. أما حينما يُواجه الحجر بترفع أو محبة، فهي الاستجابة الأخلاقية. وبشكل أبسط يمكننا كتابة التالي:

ضربني – ردة فعلي: قمت بضربه. (استجابة حيوانية غريزية)

ضربني – ردة فعلي: رددت عليه بالكلام. (استجابة حضارية مدنية)

ضربني – ردة فعلي: سامحته، احببته.. الخ. (استجابة أخلاقية)

فالقوّة بمعيار اليوم الإعلامي الذي يظهرها على أنها ضغط وبطش بالآخر ليست قوة، إنما انحطاط أخلاقي. هناك العديد مِن القوى الأخرى الغائبة عن الساحة، كقوة التحمل، وقوة الهدوء وحتى قوة التفكير. ليس أي أحد بإمكانه أنّ يفكر، الفكر قوة تنمو وتتباين كما تختلف القوى الناتجة عن طرق المطرقة مثلاً، فلا تطلب مِن مطرقة صغيرة أن تمارس فكراً كبيراً، ولا تُلح على مطرقة كبيرة لمناقشة سفاسف الأمور.

«بدأت الحضارة عندما ألقى الإنسان لأوّل مرة كلمة بدل الحجر». – سيجموند فرويد

وبالحديث عن الحشود وعلاقتها بالقوة خصوصاً تلك التي يمارسها القادة الأفراد، لا بد أن نُشير إلى أن هناك فرق بين النقاش الحاصل وسط شخصين بجانب بعضهما البعض، والنقاش أو الاقناع عندما تكون حشود الناس كبيرة بأعداد مترامية هنا وهناك. فالمثال الأوّل من النقاشات يحتمل أن يكون المنطق حاضراً فيه لأن العملية الفكرية بين فردين تكون حقيقية غالباً، بينما عندما تكون أمام حشد كبير مِن الناس أنت لا تحتاج للمنطق أبداً بل بحاجة للقوة. كما في صورة هذا المقال تماماً. قوياً، فيحترمك الجميع!

تنبّه لهذه الفكرة كلٌ مِن عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه سايكولوجيا الحشود؛ وكنا قد كتبنا مقالاً سابقاً تحت عنوان مطرقة الانبياء يُلخص الكتاب يُمكن قراءته من هنا. وعرضَ لها أيضاً إيريك هوفر في كتابه المؤمن الصادق. وجزئياً في كتاب محمد حجازي سايكولوجيا الإنسان المقهور. وهي باختصار شديد أن العلاقة مع الجماعات هي علاقة قوة وانفعال لا عقل ومنطق، يقودها القائد القابع في رأس الهرم. ويكون توجيهها مِن خلال استخدام العاطفة بشكل رئيس إضافةً لاستخدام الصور والخطب الرنانة والتكرار وتبني شعارات وحتى حركات جسدية بعينها مُشيرةً للانتماء وتعمقه، اعتماداً على أن سلوك الجماعة يختلف عن سلوك الفرد العادي، وأنه كلما ارتقى الفرد درجة في سلم الجماعة كلما نزل درجة في سلم الأخلاق. لذلك تجد حوادث سرقة واغتصاب جماعي بينما لا يمكن للفرد وحده أن يفعل ذلك أو يخاف ويتردد. ذلك لأنه يمتلك خصائص و«أخلاقيات» جديدة عندما يكون وسط الحشود، فينزل درجة مِن على سلّم الحضارة الأخلاقي.

«بإمكان الجميع مجابهة الصعوبات، لكن إن أردت معرفة شخصية الرجل الحقيقية، فإنك يجب أن تمنحه القوّة.» – ابراهام لينكولن

ولعلَ في معرفة تفكير الجماعات خطوة أولى في صعود سلّم القوة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها قوة اخلاقية قدر المستطاع، إذ نحن أصبحنا نعيش في عالم متحضر هناك متسع للجميع فيه، الإيمان بمبادئ قوة البطش القروسطية أمر قد عفى عليه الزمن. القوة التي نتحدث عنها مِن نوع آخر، أقرب ما تكون قوة عدم السذاجة ومعرفة طبائع الناس. قوة أن تكون محترماً لكونك جيداً لا لكونك مُنحطاً أخلاقياً. قوة الإنسان النبيل لا الإنسان الرديء.

إنها قوة مِن نمط آخر قل ما كانت موجودة، إلا أننا فعلاً بحاجة إليها. حاجتنا للإنسان الجيد لا السيء. للإنسان المحب لا الكاره. حاجتنا للإنسان القوي الذي لا يلقي حجراً بل كلمة. هذه القوة التي نريدها، وهذه القوة التي سيحترمك الجميع إن طبقتها.