عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

د

قدّمت عمرك للأحلام قربانا!

“هل هانَ حلمك أم أنت الذي هانا؟”..

يصل عام 2020 إلى نهايته كما يصل النهر إلى مصبهِ بعد أن فرغَ الأطفال المتنمرون من البصاق والتبوّل فيه؛ إذ كان شهورًا لم يرغب بها أو يريدها أحد. لكنه جرى بالرغم مِن كل شيء مُؤتمراً بقوانين سلطة الزمن في المضي نحو الأمام. شارفَ على نهايته كما تسابق القافية الكلمات والحروف حتى تصل لآخر بيتها وهي تلهث.. انتهى عام 2020 ووصل إلى قافيته لكن بدون إيقاع موسيقي موزون كما في بحور الشعراء.. وها هي الذكرى الآن قد بدأت تسحب عليه ذيول النسيان..

لو ضربنا مثلاً اثنان مِن الطلاب؛ أحدهما نجح في المادة الدراسية بدرجة «90» من مئة، والآخر رسب بدرجة «20». ما المتوقع أن يكون السلوك التالي لكليهما؟

حققَ الطالب الأوّل النجاح بدرجة عالية فلا أهمية لتعديل المسار وتصحيح دفة القيادة الدراسية. أما الطالب الآخر، فيتوجب عليه وقفة صغيرة مع النفس وإجراء عملية إعادة تقييم وترتيب واستخلاص للنتائج والخبرات التي أودت لتعثره في الاختبار وتحقيق علامة متدنية كتلك.

وربما عام 2020 يخضع لنفس النمط السابق؛ إذ لا يوجد في هذا الكون شر محض، بل أشياء لا ندركها، أما أن يكون الشر والسوء بنسبة 100% وكثيف كأنه ثقب أسود، لا أعتقد أن ذلك موجود. إنما مجرّد ثنائيتان تتصارعان في هذا العالم، الأولى هي الخير الواضح الذي لا مراء فيه؛ كأن يوقفك أحدهم في الشارع ليهديك سيارة بورش وحقيبة تحوي مليون دولار. والثاني هو الشر كالفيروسات والمصائب والأعوام الشديدة، التي تأتي لكي نغير دفة قيادة سفينتنا، كما الطالب ذلك الذي حقق درجة 20 ورسب. هو لم يخطئ ولم يتعرض لقوى تُريد الفتك بهِ، إنما تحذير من أجل تعديل السلوك لا أكثر.

مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا لا يفترض أبداً تغير نواميس الكون وقوانينه، بل إعادة ترتيب الفوضى الشخصية وقولبتها في إطار جديد أصلح وأنفع. هناك مثلاً كلام مُتسرع عند القول بأهمية تنظيم الوقت وإدارته، وهذه عبارة مُريبة مثيرة للتناقض. كيف يمكن للإنسان أن يُدير الوقت وينظمه؟ هذا غريب!

الوقت والزمن هو العامل الوحيد الذي يجري بلا رحمة ودون توقف، لو اجتمعت كل مخلوقات الأرض لما استطاعت أن تطيل في اليوم الواحد ساعة واحدة زائدة عن الـ 24 ساعة المتواجدة! لذلك القول بتنظيم الوقت وإدارته كناية مبطنة عن مدى عدم نفعية هذه العملية، لأن الصحيح هو أن نُدير وننظم أنفسنا ضمن الوقت لا أن ندير الوقت والزمن ذاته!

وهذا عملياً ما توصله إليه كانط وغيره من الفلاسفة فيما سُمي لاحقاً بـِ «مقولة الزمن». وهو أنه لا وجود للأيام والأسابيع ولا الشهور أو الدقائق، الأمر برمته أن الإنسان أراد أن يُنظم نفسه في خضم هذا الوجود، فأوجد مفاهيم تساعده على ذلك، وكانت حينها الاصطلاحات السابقة كلها.

ويكفي أن يحدث اختلال بسيط في محور دوران الأرض، حتى تذهب كل تواريخنا وأيامنا ومواعيدنا القادمة أدراج الرياح…

الدافع لهذا الكلام، هو النمط السائد مما يكتب في نهاية العام؛ تحت شعار: في ديسمبر تنتهي كل الأحلام. والموجة المضادة له التي نشأت تقول: «دعونا وشأننا لا نُريد أن نفعل شيئاً في العام الجديد». لذلك لا بد من هذا التوضيح المهم.

رأس السنة وغيرها ما هي إلا توصيفات لـ «مقولة الزمن». عملياً، لا يوجد بداية جديدة ولا أي شيء، إنما فقط إعادة ضبط لأنفسنا نحن بما يتناسب مع نقطة كنا قد اتفقنا على تحديدها مسبقاً؛ التي هي ميلاد المسيح كما في التقويم الميلادي وهجرة النبي محمد كما في التقويم الهجري القمري ونقطة بداية التقويم الصيني والآشوري وغيرهم..

الأحلام التي تأتي في بداية كل عام والخطط الجديدة لها مكان دائماً، ليس لأن الإنسان كائن مُغفل ولا يتعلم ودائماً يكرر أخطائه ولن يصلح حاله حتى يصبح لون الغراب أبيض! بل لأنه أمتلك دائماً مخيلة واسعة وآمن بغد أفضل يُحقق فيه ما يتطلع إليه، ولعل في مثال القرود خير دليل على ذلك.

لنفرض أن هناك قرد لديه موزتان أمامه، لو طلبت من القرد أن يترك الموز اليوم، في سبيل الحصول على طرد من الموز غداً، سيستجيب؟ بالطبع لا. لأنهُ -بحسه الحيواني- يميل لتلبية غرائزه بسرعة دون محاكمة أو «مِخيال» عقلي أبداً.

بينما الإنسان لهُ شأن آخر، الإنسان كائن يستطيع تخيل طرد الموز في الغد.. يستطيع أن يكبح نزوة لحظية في سبيل تحصيل لذات مضاعفة غداً.. الإنسان كائن يمتلك مخيلة، يمتلك أحلاماً.. يستطيع أن يرى الغد ويأمل فيه خيرا…

إن أُجهضت هذه الأحلام، ما الذي يتبقى كاختلاف إذاً عن ذلك القرد صاحب الموزتان؟

قدّمنا أعمارنا للأحلام قرباناً… نعم، لكن هذا أساساً ما يجعلنا بشراً. نمتلك حلماً ونأمل تحقيقه.

ولا يُصبح الحلم حقيقية إلا عندما يتحول لروتين يومي يملك جدولاً مُحدداً وخططاً ومنبه قليل ذوق يزعجك في كل صباح، عدا ذلك سيبقى حلماً وعندها “ولا بالأحلام” ستستطيع تحقيقه!

احترم أحلامك وأعطها مواعيد ومواقيت محددة. سمة الإنسان الحلم والخيال، لا تحرموا أنفسكم منها!

لكن هذه المرة ليس لأن «العادة» اقتضت أن تكون نهاية السنة ذات نزوع تحفيزي بغد أفضل جديد، ولا لأنك قد قرأت مقالاً هنا وهناك يدفعك لبداية العام بطريقة ما. لا لا، بل من إيمان عميق ناجم بأنّ الطالب الذي أصاب درجة «20» لا بد من أن يقوم بإعادة تقييم للوضع الذي سبب له الوصول لهذه النتيجة المتدنية.

وهذا ينبغي أن يشمل مختلف النواحي؛ ابتداءً من عادات النوم إلى الرياضة ومن ثم الأكل ومشاهدة الأخبار ومذيعات قناة العربية وأي شيء آخر كان أو يكون.

الوقت لا يُنظم بل نحن مَن نُحدد أنفسنا وننظم ذاتنا ضمن الساعة الزمنية الضخمة لهذا الكون، عدا ذلك سنكون فوضى بلا أي جدوى. كطالب أصاب درجة 20 وأصر في كل مرة أخرى أن يُكرر نفس الحماقة رافضاً أنه قام بخطأ ما، وكقرد يأبى إلا أن يأكل الموزتين ولا يقتنع بطرد الموز الكبير في الغد القادم..

الإنسان كائن يمتلك أحلام، يستطيع الإيمان بها.. فلا تحرموا أنفسكم منها..

حينها فقط يمكننا أن ننعم بطرد موز كبير في الغد ونحن نقول: عامٌ سعيد نرجوه للجميع، وكل عام وأنتم بخير!