ملاك العامري
ملاك العامري

د

قراءة في قضايا الشعر المُعاصر

قصيدة حُرّة

لأنهُ كما قال برنارد شو “القاعدة الذهبية هي أنه لا يوجد قواعد ذهبية!” كان على الشعر العربي يومًا ما أن يتمرد على بحوره ووزنه وقافيته، أن يخرج عن حدود القاعدة وقالبها، إلى حرية القلم حرية النص وتحليقه وتبتدئ مسيرة الشعر الحر وجمالياته..

كل تغيير بدأ من نقطةِ صراع

بعد الحرب العالمية الثانية التي دمرت أدنى مستويات الحياة للإنسان الطبيعي، وشقّت كل طريق للمعاناة والألم، كان تدني الحياة وانتشار المرض نقطة تحول أيضًا في عالم النص الأدبي حيث أن الأدب يحاكي حياة الإنسان ويصفها، كان في ذلك الوقت لا بد من إيجاد لغة ما تشبه لغة العصر المتداولة تصف شعورهم ومعاناتهم، قريبة من جراح أرواحهم المفتوحة، إذ أنها كانت حقبة ملائمة لولادة الشعر الحر.

الصراع ضد الشعر الحر

واجه العديد من الكتاب والشعراء الشعر الحر بالنقد والرفض لأنه لا يخضع للمعاير التقليدية للشعر، ليس نصًا منظومًا ومحبوكًا بالطريقة الاعتيادية وبالتالي اعتبروه ركيكًا فضفاضًا ولا يعد من الشعر أصلًا، رغم كل الحروب ضده أبثت الشعر الحر جدارته وفاعليته واستمر حتى الآن كأهم مدارس السرد المعاصر.

رُبان سفينة الشعر الحر

لم يبحروا بالفكرة في عالم الأدب، إنما رسوا على بها على مرسى المعنى وعمقه، وجماليات النص التي تجاوزت كل حدود القاعدة، وقد ابتدأت المسيرة بدأ من ديوان (الكوليرا) لنازك الملائكة، أيضًا كان أهم رواد المدرسة الشاعر العراقي بدر السياب، والشاعر المصري أحمد حجازي ومن أروع من كتب في الشعر الحر الشاعر محمود درويش وغيرهم من الكتاب الذين شذّوا عن قاعدة المنطق مثبتين لنا أن الجمال لا يخضع لقاعدة.

جماليات الشعر الحر:

وكان أجمل ما كتب في الشعر الحر نص قصيدة شؤون صغيرة للشاعر نزار قباني:

 شؤون صغيرة

تمر بها أنت.. دون التفات 
تساوي لدي حياتي 
جميع حياتي.. 
حوادث.. قد لا تثير اهتمامك 
أعمر منها قصور 
وأحيا عليها شهور 
وأغزل منها حكايا كثيرة 
وألف سماء.. 
وألف جزيرة.. 

كذلك قصيدة (اتبعيني) للشاعر العظيم بدر السيّاب:

أتبَعيني

 فالضُحى رانَتْ بِهِ الذكرى على شطٍّ بعيد

حَالم الأغوارِ بالنَّجمِ الوَحيد

وشِراع يتوارى

واتبعيني

هَمسة في الزُرقةِ الوَسنَى وظلُّ من جناحٍ يَضمَحِلُّ

 في بَقايا ناعساتٍ من سكونِ

في بَقايا من سكونِ

 في سكونِ

وكما قيل -رغم اختلاف الآراء- أن الأديبة العراقية نازك الملائكة هي أول من ابتدأ رحلة الشعر الحر في ديوان (الكوليرا) فقالت تعاطفًا مع انتشار داء الكوليرا في مصر:

سكَن الليلُ

أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ

فى عُمْق الظلمةِ، تحتَ الصمتِ، على الأمواتْ

صَرخَاتٌ تعلو، تضطربُ

حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ

يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ

في كل فؤادٍ غليانُ

في الكوخِ الساكنِ أحزانُ

في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ

في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ

هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ

الموتُ الموتُ الموتْ

يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ

طَلَع الفجرُ

أصغِ إلى وَقْع خُطَى الماشينْ

في صمتِ الفجْر، أصِغِ، انظُرْ ركبَ الباكين

عشرةُ أمواتٍ، عشرونا

لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا

اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين

مَوْتَى، مَوْتَى، ضاعَ العددُ

مَوْتَى، موتَى، لم يَبْقَ غَدُ

في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ

لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ

هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ

الموتُ الموتُ الموتْ

تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ

عبر عن نفسك..

لأن الشعر الحر سهل النظم والكتابة، ولغته أيضًا تشبه لغة العصر وحديثها، فهو مدرسة -من وجهة نظري- لا تقتصر على الأدباء، بل تتسع لكل من يرغب بالتعبير، عالم شاسع كما قلنا سابقًا يتعدى حدود القاعدة، لذلك تمتاز هذه المدرسة بجغرافيتها الواسعة وصدرها الرحب لكل من يرغب أن يعبر عما يحس به أو يريد قوله.