أحمد اكرتيم
أحمد اكرتيم

د

وسادة المغترب…

حين يخفت إيقاع النهار وتنمحي كل أصواته، يحل الليل بسكون الكون كهدوء المقابر، ويأوي المغترب إلى وطن فقيد في خياله ويبدله بوطن جديد هناك هناك فوق رحابة وسادته…

هنا يخفت الخارج وتنطق كل دواخل الذات، تنتفض كل الهموم وتبدأ كل الحوارات، اثنان نحن هنا أو ربما ثلاثة، أنا وأناي ووسادة تأبى منح المغترب فسحة نوم مشروط بالإفصاح…

هنا يرمي المغترب كل أسراره، يسر بكل أحزانه ويشدو بكل أفراحه إن وجدت، فالوسادة صديق وخليل وربما ترقى لمكانة وطن صار في الواقع فكرة وبضع ذكريات ورابطًا بيولوجياً لاغير.. فالوطن فكرة قبل الأرض ألغتها حقيقة العبث هناك.

هنا لا صراع مع الذات ولا وجود للمعطى الخارجي، هنا كل شيء فوق الوسادة ينحل من صفته الوجودية والواقعية ليصير مجرد موضوع، يتجرد كل شيء من ثقل الواقع، فالأشخاص هنا كالأشياء لا تقام معهم علاقة ود أو صراع، حتى الأحاسيس حين تطفو خارجاً هذا هو الوقت المناسب لمحصها وفي أفضل الأحوال وأدها إن وجب، فالغد هناك هناك لا يعترف بهذا الحديث الليلي ولا يعين على خوض أسفاره.

هنا الوسادة هنا بوابة السلام أو القيامة على حد السواء، هي الصديق من القلة، فكرة تأبى البروز أو ترفض الخفوت، ربما قدر لم يفهم أو آخر لم يكشف، أو حبيب لم يأت و لن يأت، وطن بعيد في الجغرافيا وقريب منفي في غياهب العقل، هنا المحاكمة العلنية الوحيدة للذات لا تخجل من البوح فيه والوقوف ندًا للند إزاء أخطائها، هنا الحديث الأسوء والأعنف الذي يعيننا على الوقوف غداً صامدين نملك خلاله حق القول هذا سيء لكننا نعلم الأسوء أو هذا جيدًا لكننا نصبوا للأجود.

هنا فكرة النضوج التي تكبر رويداً رويداً، أحيانا نكبر فجأة وندع النظارات البالية التي كنا نرى بها العالم سابقاً، هو مجرد حديث عفوي صادق مع الذات ما يكفل هذا في ضيافة وسادة ترفض ترك أي سؤال معلق، كيف؟ ولم؟ ولماذا؟ لا مكان هنا لمزيد منها، فالجواب هنا يفقد كل مصداقية، لأننا ندرك حتماً أن الجواب كان هنا وأننا فقط لم نكن قادرين على الإمساك به، نوع من الدرس تكفله مساحة الحوار فوق الوسادة، إن الحياة حتمًا تستمر وأننا لسنا مركز الكون وإننا لم نخلق كذلك لنكون مفهومين من الجميع، إننا هنا فقط ماضون كالجميع حتى الأمل يتحول لفكرة تعيسة لأنه أكذوبة قد تنهك العقل، وحدها الواقعية والإقبال على الحياة بما يقتضيه استعدادنا ما يكفل المضي، الأشخاص والأحلام والهواجس كلها هنا في خانة الهامش لأن الركض دون عنوان وراء المبهم فيه نحر لكبرياء الذات فهو السند للعقل إن غاب، تاه كل شيء و انزوى في الغياب.

هنا وسادة المغترب، وطن المساء ومركب المضي نحو الغد، جرعة الواقع لفك ملامح النهار، هنا القدر يهدينا أجمل الأشياء وهي الفهم، هنا ينمحي سلطان المبهم وتكف الذات عن اللهث وراء كل مبهم، هنا فقط ندرك أن ما فات ليس يؤوب وما هو آت في الزمان قريب…