الهنوف الحربي
الهنوف الحربي

د

كليشيهات أم بديهيات؟

لفت انتباهي مقالة صحفية بعنوان (الكليشيهات: حين نكون عبيدًا للغة) عبّر فيها الكاتب عن مدى استيائه من الكليشيهات في حديثنا وكتاباتنا.. لكن هل بالفعل الكليشيهات تصنع منّا عبيدًا للغة؟ أم هي بديهيات ومسلمات نحيا بها؟

قبل كل شيء ما الذي تعنيه كلمة كليشيه clichés؟ 

هي تعبير أو فكرة أو عمل فُرط استخدامه حتّى فَقد بريقه ومعناه الأصلي، بالمختصر يعني (الشيء المبتذل).

تؤيد باحثة علم الاجتماع (Routh Amossy) أن الكليشيهات تمثّل الأرضية المشتركة للتواصل البشري، فهي توفر علينا الجهد في ابتكار كل جديد، وهي نوع من الخوارزمية العقلية المشتركة للتواصل والعلاقات الإجتماعية.

ظهرت كلمة كليشيه في أواخر القرن التاسع عشر مأخوذة عن الفرنسية، ويستند معناها إلى محاكاة صوت النقر الناتج عن أحد أنواع الطابعات للألواح المقولبة آنذاك، ومن هذه المحاكاة الصوتية اشتق منها معنى (العبارة الجاهزة).

أرسطو (الفن هو محاكاة!)

يرى أرسطو أن جوهر الفن ما هو إلا محاكاة للطبيعة، واعتبر المحاكاة نزعة تولد مع الإنسان والتي بواسطتها يستطيع الطفل تعلّم لغة جديدة عن طريق تقليد الكلمات التي يرددها الكبار، ولولا المحاكاة لما اكتسب الطفل معارفه الأولى.

يقول أرسطو: “نشأ الشعر عن سببين, كلاهما طبيعي، فالمحاكاة غريزة في الإنسان تظهر منذ الطفولة (والإنسان) يختلف عن سائر الحيوان في كونه أكثر استعداداً للمحاكاة, وبالمحاكاة يكتب معارفه الأولية, كما أنه يجد متعة في المحاكاة.”

إذا الشعر عند أرسطو نشأ عن سببين طبيعيان عند الإنسان وهما:

1 – الميل إلى المحاكاة، وهو ما يميز الإنسان عن سائر الحيوان ويمكّنه من اكتساب معارفه الأولى.

2- شعور الإنسان باللذة أمام أعمال المحاكاة.

تفكير الكليشيه

عمم الطبيب النفسي مصطلح (كليشيه) عام 1961 م في كتابه (إعادة تشكيل الفكر وسيكولوجيا الشمولية – Thought Reform and the Psychology of Totalism) وأقتبس من كتابه : “تتميّز لغة البيئة الشموليّة بكليشيهات قاصية للفكر. تضغط أعقد المشاكل البشريّة وأشدّها صعوبةً بعبارات موجزة ومختزلة، سهلة الحفظ والتعبير، وتستخدم في كلّ بداية وكلّ نهاية لأيّ تحليلٍ أيديولوجيّ”

وهذا ما كان يمقته الكاتب الإنجليزي (جورج أورويل) الذي يرى أن الكليشيهات هي السبب في انحطاط الفكر واللغة، ذكر في مقاله Politics and the English Language أن الاستعارات في اللغة جعلتها غير حيوية وفقدت قدرتها التحفيزية، وضرب أمثلة على بعض الاستعارات المبتذلة مثل (نقف جنبًا إلى جنب – الصيد في المياة العكرة..) وغيرها من الاستعارات التي بات الجميع يرددها بلا وعي. 

هل الكليشيه خطيئة لغوية؟

لنتخيل أننا نعيش من دون لغة، كيف نتواصل؟ دور اللغة هنا هو بناء جسور التواصل والتفاهم فيما بيننا فهل أحاديثنا اليومية المتكررة خطيئة؟ 

استخدامنا للكليشيه لا يعني أننا نشبه آلة طباعة ننسخ مشاعرنا بقوالب جاهزة دون الإحساس بها، غالبًا نتعمّد استخدام الكليشيهات بوعي وقصد لتحقيق أهداف معينة، على سبيل المثال (هذا الوقت سيمضي) يرى الكثير أنّها كليشيه نردده لقمع شعورنا اللحظي باليأس أو الحزن ولكن في الحقيقة عبارة (هذا الوقت سيمضي) حقيقة لايمكن انكارها فالوقت يمضي وسوف ننسى آلامنا مستقبلًا.

نحن نكون أكثر لباقة مع وجود الكليشيه، حينما نردد مع السلام سؤال (كيف حالك؟) ويجيبنا الآخرون بـ (بخير الحمدلله) فلا مفر منّها في استعمالها اليومي للتعايش والتفاهم ونقل وجهات النظر.

إننا في أوقات كثيرة تنفذ كلماتنا ونفتقر للخيال ونلجأ للكليشيه لإنقاذنا، أعتقد أنّه رغم علمنا و درايتنا  بأنّها فقدت بريقها وقدرتها التحفيزية على عقولنا إلا أنّها جزء أساسي في لغتنا لا يمكننا فصله، لكن السؤال الذي يراودني دائمًا هل أصبحنا في زمن لا يمكننا فيه أن نبتكر عبارات جديدة في لغتنا؟