ناصر البكر الزعابي
ناصر البكر الزعابي

د

السيرة الذاتية بين التاريخ والمباهاة

يمتد تاريخ فن السيرة الذاتية إلى زمنٍ بعيد، حيث ظهرت العديد من المؤلفات التي حوّلت إلى وثائق تاريخية لعصورٍ مضت في الأدب العربي، ومن البديهي التفريق بين كتب التراجم والمؤرخين وبين كتب السيرة الذاتية التي تناولت أعلام الأدب، وشكّل السرد التاريخي علامة مضيئة في هذا الفن العريق، ولا شك أن السيرة الذاتية المبنية على وقائع وأحداث عاصرتها الشخصية المعنية، عكس السيرة الغيرية التي ركّزت على أحداث الزمان، فالأدب العربي عموماً حافل بالنماذج المعاصرة أمثال (طه حسين وأحمد أمين وابن خلدون) الذين كتبوا سيرتهم الذاتية بأنفسهم، ومن البديهي كذلك أن ننوّه بالفرق بين اليوميات والمذكرات التي دوّنها الأدباء والكتّاب في حياتهم والتي تحوّلت لاحقاً إلى مؤلفات اختلف البعض في تصنيفها باعتبارها حالة خاصة جداً يعيشها الكاتب مع نفسه.

وتعد الرواية جزء لا يتجزّأ من فن السيرة الذاتية ولدينا نماذج عدّة أمثال (محمد شكري والطاهر بن جلّون) حيث تحوّلت حياة المؤلف إلى عمل روائي وفني، وفي عصرنا الحديث تطوّرت السيرة الذاتية كثيراً حيث قدّمت أعمال درامية أثارت جدلاً واسعاً وخصومات ونزاعات بين ورثة الشخصيات وأبطال العمل والمؤلفين والمنتجين، مما يقودنا إلى تساؤل مهم:

هل  يعتبر المبدع ملكية عامة لمجتمعه أم ملكية خاصة لأسرته؟

فكم من المشاريع الواعدة التي وأدت في مهدها بسبب تعنّت واستحواذ ومبالغات العائلات في تقدير قيمة الميراث الأدبي -على سبيل المثال- كذلك حرم المتلقّي من نتاجات مهمة قد تكون رافداً للمشهد الأدبي بأكمله.

إن من أكثر الصعوبات التي واجهها الكتّاب في تدوين وتوثيق سيرة أعلام الأدب المعاصرين هو عدم تجاوب الأسر بالشكل الكافي، وإحاطة الحياة الخاصة للشخصية بسياجٍ من السرّية وفق أعرافٍ تقليدية قد نتفق معها وقد نختلف، لذلك نجحت كتب السيرة الذاتية التي قدّمت في حياة صاحب الشخصية وليس بعد رحيله، ربما لاطلاعه المسبق، وربما لخضوعه لأحكام وشروط معينة، إلا أن هناك مؤلفات وقعت في فخ المثالية والمبالغة.

هذه الإشكالية الواضحة تؤكدها كتب الدراسات النقدية الحاضر الغائب عن مشهد النشر تقريباً، فهي التي تفنّد الدعوى، وتأصّل إلى تأكيد الفكرة بأسلوب نقدي بحت، بعيداً عن العوامل الخارجية المؤثرة، لذلك من واجب كل مبدع أن يحمي نتاجه الأدبي بالشكل اللائق حتى تنهل منها الأجيال القادمة بسلاسة ويسر، وحتى لا تضيع المؤلفات القيّمة في زحام التشتّت والتشعّب الذي ضرب ساحة الأدب في السنوات الأخيرة.

لعل أبرز المقترحات التي تداولها المثقفون مؤخراً الدعوة إلى إنشاء متحف ثقافي يجمع تاريخ الأدباء ومقتنياتهم وأبرز مؤلفاتهم لتكون دليلاً على التطوّر الحضاري من جهة وللحفاظ على التراث الثقافي من جهةٍ أخرى، لا شك أن هناك مبادرات رفيعة للمستوى قامت بها المؤسسات الثقافية في إعادة طباعة ونشر المؤلفات الأدبية لشخصية راحلة، إلا أن هناك العديد من الأسماء التي لم تنل حظّها في عالم الشهرة واختارت العزلة والانطواء ولم تظهر إبداعاتها إلا بعد سنواتٍ عديدة، بل أن منهم من عاش حياة التشرّد والصعلكة بحذافيرها حتى بداية القرن الحادي والعشرين كما في تجربة الشاعر العراقي الراحل (جان دمو) والذي لم ترى أعماله النور والانتشار إلا بعد رحيلة بسنواتٍ عدّة، وضاعت الكثير من أعماله بسبب حالة التوهان والشتات التي عاشها، في المقابل ظهرت لنا أعمال تنسب إلى السيرة الذاتية إلا أنها عبارة عن كتاباتٍ مجمعة لم تتناول البعد الإنساني والأثر الأدبي للشخصيات كما ينبغي له أن يكون، وطفت على السطح ظاهرة المباهاة في نشر السيرة الذاتية عند بعض الأدباء في حياتهم، وهذا ما سبّب حالة من الحيرة عند المتلقّي، لأن فن السيرة الذاتية قائم على الإبداع وعلى أسلوب المؤلف في معالجة الشخصية التي قرّر الكتابة عنها لذلك فهو لا يقبل وصاية من أحد، وربما لا يلجأ إلى المراجع التقليدية ويكتفي برؤيته الفنية لمشروعه الأدبي.

هناك شخصيات كثيرة في الأدب العربي لم يسلط عليها الضوء كثيراً حيث استسهل المؤلفين الكتابة عن شخصياتٍ شهيرة ألفت عنها عشرات الكتب والمراجع، قليلاً ما رأينا مؤلفات تتناول السيرة الذاتية لشخصيات عاشت في الظل لكنها تمتلك إبداعات هائلة، وفي العصر الحديث ومع تطوّر وسائل النشر والطفرة التكنولوجية الكبيرة، بدأ الناس يتعرّفون على العديد من الشخصيات الأدبية متأخراً، بل أن منهم من ذاع صيته واشتهر وعرف كثيراً بعد رحيله بعقودٍ من الزمن، إلا أن الظاهرة المدهشة للغاية أن هناك أسماء مرموقة وأقلام عربية قدّمت الكثير للثقافة العربية بقيت مجهولة عن الجيل الجديد، الذي لم يعش زمنها بسبب ضعف مستوى الإعلام الثقافي وعدم إيصال المعلومة في توقيتها الصحيح، وتكرار الصورة النمطية المعتادة في تناول رموز الثقافة، لذلك فإن السيرة الذاتية فن عريق يستحق التطوير والاهتمام بشكلٍ أكبر من المؤلفين المعاصرين الذين ربما يمتلكون أدوات متاحة أكثر من الأجيال السابقة للحصول على معلومة أو تدوين وتوثيق وعرض وشرح وتحليل حصاد الشخصيات، يجب ألا نركن إلى التبسيط والاستسهال الذي أصاب بعض الأجناس الأدبية بالضعف والتكرار، فلكل عصر  ظروفه وأدواته، لذلك يبدوا عصرنا الحديث ملائماً لتطوير فن السيرة الذاتية بالشكل المأمول، فلا بأس من أن تقام ورشة تأليف تجمع عدّة مؤلفين يعملون في مشروعٍ واحد وكتابٍ واحد حول شخصية أدبية ثرية لها باع طويل ولديها إنجازات في عدة قطاعات وألوان

(قصة، شعر، مسرح، رواية) فمثل هذه الورش تضخ الحيوية في الجسد الثقافي ويثري الساحة بأعمالٍ قوية ومفيدة.

لقد طرحت في السنوات الماضية العديد من المقترحات الثقافية المميزة لتطوير فن السيرة الذاتية في كتابة تاريخ عظماء الأدب، لكنها لم تدخل حيّز التنفيذ حتى الآن، وما نراه اليوم لا يتعدّى جهوداً فردية من بعض المؤلفين الناشطين الباحثين عن تدوين التاريخ الأدبي لشخصيات كان لها بصمات ومنجزات لا تنسى في تاريخنا الأدبي الكبير.