أمير محمد
أمير محمد

د

هكذا أنت

أذكر أنه في مثل هكذا توقيت منذ عام ذاعت الأخبار وترددت الأقاويل بعد ذعر أن العالم سيجد المصل الذي يستطيع مغالبة الفيروس الهاجم، أذكر أنه في ذلك الوقت تحديداً كان يحاول الإنسان التأقلم مع كهفه الخاص الذي وجد نفسه فيه دون إرادة حتى بدا هو بذاته كهف ذا روح..

يغالب المرء أحياناً شوقه الدفين للماضي حتى ولو كان جُل آلامه تقبع فيه، رُبما أغنية عابرة، ربما رائحة ما تودي به بوادٍ غير ذي زرع تعود به إلي حيث البعد السحيق من وقت مضى يُغالب شوقه ويغالبه النوم..

يمسك بمذكراته على مضض يكتب ويكتب ويكتب حتى يكاد يغشى عليه من الحبر الذي يُزرف بلا هواده، لا يكترث لآهات الورق من بعده ولا لصريخ السطور تحت أنامله..

الوقت يُسرقه فيذرف من كل واديٍ نبتة ومن كل عامٍ عثرة حتى لم يزل يسرف الكثير من طاقته التي تنفذ بفعل الوقت.. ‏أحياناً .. لم تواتِني اللحظة ولم يُسعفني الوقت لإظهار الإمتنان اللائق ببعض الأشياء؛ كنت أحياناً لا أستشعر لذة اللحظات إلا بعد انقضائها .. تغمرني ملئ جوفي وتفيض بـ انتشائي بها.. ثم تتركني وأمضي!

واسيني الأعرج يشارك هواجسه وينصفني؛ ماضي يشبهني.. هو أنا لكني أكبر منه، هو فيّ ولكنه ليس أنا، هو منّي لكني بعيد عنه، أستحضره لأستيقظ خارجه، هو ذاكرة ونحن حياة ..

يقبع المرء في ماضيه بعد صراعٍ يودي به في وادٍ مفقر منتشي بلذة الليل وكأنه التعويض العادل وهو من هذا براء معارك أفكاره لا متناهيه تصارعه بكل جساره حتى تخار قواه.. بعض المعارك في خسرانها شرفُ كما أعلن الإدعاء، لكن من نقاط ضعفي الثقيلة، أني لا أطيق الإنهزام على الإطلاق ..

المرة الأولى من كل شئ هي اللذة الأولى التي لا تتكرر مهما تعددت اللذات، خفقة القلب الأولى ونشوة الجسد الهالك التي تستشفي شغفه وتحييه من جديد..

بدأت في عشرات الكُتب ولم أنهيها، بدأت في كثيراً من الأشياء ولم ألبث إلا وأن أحيد وتضل خطاي الطريق، بعض الأشياء بدأتها بكل إرادة مني، وبعضها استنفذني حتى بدأته، معظمها تركتني عند أول منعطف أو تركتهم لا فارق، لكنني أستشعر الغضب بداخلي و أنني بِت بيئةٌ نشطة لكل ما لا تُخمد نيرانه ..‏

ما يُعزيني هو أنني أعلم أن بصيرتي قاصرة ولا أدري  بواطن الأمور كما يعلمها هو، أعلم أن لله في أموره حكم تُخفى وحساباتٍ تُعد
وأدعوه دوماً أن يثلج صدري بالسكينة وقلبي بالإيمان الغامر..
ومع ذلك دائماً ما يتردد بداخلي لماذا ومتى؟!
متى نعرف أن الفرصة مناسبة حتى لو بدا أنها غير ذلك !

منذ فترة تعتريني مشاعر جارفة وكلما هممت أن أكتب لا أجد ما ينصفني من قوالب اللغة، يجف الحبر وتتلعثم الجمل، كنبضات القلب تتمايل السطور وهي تراودني بتمنع شديد ..

يركض المرء لاهثا وراء ما يعزيه يمرض فيكتب يبكي فيكتب يفرح فيكتب ولا يزال يكتب ويكتب غير عابئاً بلهيث القلم ولا آهات الأحرف وصراخات الحبر يكتب ويكتب ويكتب.. حتى يصير كومة من ورق،‏ بعضها يفر هاربا والآخر يلقى حتفة ومثواه الأخير برمية احترافية في الباسكت الجانبي..

إحدى رسائلي الهاربة من دفتر نصوصي المكتظ، إحدى قُبلاتي العابرة التي لا تذوب ولا تنطفئ حرارتها إليك، أبى الكلام أن يستكين بين أحضاني وأبى الحبر أن يمل عن الكتابة وأبيت ألا أخبرك، قد تراها إحدى نصوصي المتكررة لكنها ليست كذلك، فهي منك وثغرها جبينك ونشوتها صوتك ولهيبها أنت ..‏قد تراها عبثية قد تراها إحدى هفواتي المعتادة، لكنها ليست كذلك على الإطلاق، فـفي السماء أنتشي بك، وتُحيطني أنفاسك كلما هبت رياح البرد، والمطر يُثقلني كلما امتنعت.. أنت لا تعلم عن الأهازيج التي يكتظ بها رأسي شيئا، زحمة الداخل مضطربة بشكل بشع والنوم يصارع الجفون حتى تستكين..

مرور الدقائق ..هي فِعل الفراغ بي بطئ لا يُطاق، صوت عقرب الثواني المزعج هو حنيني ونصوصي تأبى الملل، إحدى نصوصي الهاربة إليك ..‏أسمعُ دائماً ما يشحذُ بي إلى الوراء، أسمعُه نادراً بصوت لحوح وآخر هامساً يأتي عميقاً؛ أن لا عودة مهما كانت النتائج دعنا نصنع أوقاتنا لازالت الليلة تطول كعادتها، مابين الإلحاح والهمس يتوه الطريق وينبري ..‏

هكذا أنت.