سامي الذبياني
سامي الذبياني

د

مناظرة مع أبي الفتح الإسكندري

بينما أنا مستغرق في عملي، إذا بي أرى شيخًا طاعنًا في السن، يُقبل نحوي، وله هيئة غريبة، وله منطق حسن.

أما هيئته فقد كان يلبس عمامة خضراء كبيرة، تُشبه زيّ الأعراب القدماء الأقحاح.

وأما منطقه، فقد حدثني، فحسبت للوهلة الأولى حين نطق، أني بُعثت من مرقدي، وخرجت من عالم حياتنا الحاضرة إلى عالم حياة أمتنا العربية الغابرة، عالم عصر لغتنا العربية الأولى!، وأني حين كنت أقف، إنما أقف أمام أعرابي قُحّ، لا أمام رجل من أبناء عصري، وتذكرت حين رأيته وسمعته فصاحة “أبو الفتح الإسكندري” المحتال في مقامات بديع الزمان الهمذاني..

 فقد كان الرجل يتحدث اللغة العربية بفصاحة عجيبة، وسألته عن بلده فأخبرني أنه عالم من علماء بلاد الأفغان، ثم إنه أمسك بيدي وأخذ يُحدثني ويقول:

إنك تعمل هنا _يعني الحرم المكي_ وترى مخالطة الرجال للنساء، ولا تُحركّ ساكنًا، وإني أتعجب من تبلد غيرتك، وسكوت علماء بلدك، كأنما سكوتك وسكوتهم إنما كان عن إقرار ورضى!

فقلت: وما هو الحل عندك؟

قال: الحل في الفصل بين الرجال والنساء، أو في جعل وقتِ للنساء في الطواف، ووقتِ آخرِ للرجال!

قلت: حسن!، ولكن هل أنت أشد حرصًا من رسول الله ﷺ ؟!

قال: لا!

قلت: فقد كان النساء في عهده  ﷺ يطفن مع الرجال، ولم ينكر عليهم نبينا ذلك، فهل أنت أحرص منه وأعلم؟

قال: حاشا وكلا!، وقد سلّمت لك بما تقول، ثم قبص بأطراف أصابعه على يدي مبتسمًا وقال: الآن اطمئن قلبي وانشرح صدري، وانصرف ليُصلّي سنة الطواف..

ثم بعد أن فرغ، عاد إليَّ مره أخرى وهو يضع يده على صدره، ويُزمجر ويتمم ويقول: أدرك قلبي، فإنه عاد ليضطرب، وقد تفكّرت فيما قُلت فرأيت أن واقع زماننا المعاصر يخالف واقع زمن النبوة، فقد كان التزاحم في زمن النبوة معدوم، أما في وقتنا الحاضر فهو أشد ما يكون، فكيف تقيس اللاحق بالسابق، وليس بينمها تماثل ولا تقارب!

قلت: ما زعمته من أن التزاحم لم يكن موجودًا في عهد النبوة غير صحيح، فقد ثبت في ما روي من الأخبار الصحيحة أن النبي  ﷺ نهى عمر بن الخطاب عن الزحام عند الحجر الأسود وثبت أنه قال له: يا عمر إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف.. إلى آخر الخبر!، وثبت أيضًا أن عدد من حج مع النبي ﷺ في حجه الوداع أكثر من مئة ألف رجل وامرأة وكلهم قد طافوا وسعوا في وقت واحد، ولم يقل نبينا  ﷺ ما قلت !..

فإذا بهذا الشيخ يتطلّق وجهه، وتنبلج أساريره، ويُصافحني بحرارة ويُقرَّ لي بصواب الاحتجاج، ويقول لي: أحسنت في حل الإشكال، وقد ثبت عندي الآن أن بلادكم بخير، وأن علماء بلادكم على خير، ثم ودعني وانصرف ..

وقد رويت لكم هذا الخبر لظرافته، وسرعه رجوع هذا الرجل إلى الحق، وحرصه على الخير، وفصاحته وغرابه منظره!

خلاصة المقال:

الرجوع الى الحق خير من التمادي في الباطل