هبة الله حمدي
هبة الله حمدي

د

مليكة أوفقير :سليلة القصر والسجن والغربة ..


 لو لم يكن حدث كل ذلك الضياع ،كل ذلك الهول ،كان يمكن أن أقول إن تلك المعاناة جعلتني أكبر أو على الأقل غيرتني وإلى الأفضل ! مليكة أوفقير (كتاب السجينة )

كيف يمكن أن يتردى حال المرء بتلك الطريقة ،ويجار عليه جورًا بينًا فيفقد أزهى فترات حياته في زنزانة لا ترى النور معزولة كأنها خارج إطار الزمان وحدود المكان وينسى كأنه لم يكن وهو بالفعل لازال كائنا ،إننا نكتب بنقرة إصبع حروفا وعبارات تعبر عن الوحدة والجوع والحرمان والفقد وغيرها من المواجع ،لكن أن يقاسيها إمرأٌ ومن ثم يحاول صوغ محكيٍ يعبر عنها ،إنها كأن تغرس خنجرا في الضلوع لا يُميت حقيقة لكنه يصيبك بألم كالموت !

تحكي مليكة الإبنة الكبرى للجنرال أوفقير عن سنوات حياتها الخصبة بادئًا وما كان فيها من رفاهية يوم لم يكن من منغص أكثر من ضيقها ، هي ابنة للرجل الثاني في المغرب ومتبناة من قبل الرجل الأول (الملك) لكنها كانت بالطبع وكما تشير مدللة ترتدي أفخم الثياب ، “تركب الطائرة في الدرجة الأولى كما يركب الآخرون الحافلة” ودون مقدمات وفي أزهى مرحلة لها إذ كانت تدرس البكالوريا وتستعد للإمتحانات ،يُغتال والدها ويُحكم على الأسرة بكاملها أن تزج في السجن لجرم والدها الشنيع وهو محاولة انقلابه !

تسرد مليكة من منظورها الشخصي -وكونها ابنة- عن والدها ،وعن قوة شخصيته وأبوته الحانية من وجهة نظرها وحنكته في تربية أبنائه وتحكي مشاهد لذلك منها حين علم أنها تدخن في مراحيض البلاي بوي انتظرها حتى خرجت وقال أن عليها أن تدخن أمامه عوض أن تفعل ذلك من ورائه وكان يناقش مع صديق تربية أبنائه فأخبره أنه لا يحب السرية ويفضل الصراحة على الكذب ،وأيضا تغاضيه عن سهرها غالب الليالي في الملاهي الليلية وأظهر لها أنه على علم بذلك إذ لم يلُمها ولو لمرة على هذا الفعل وكان يثق فيها ويعلم أنها قوية كما تذكر مليكة ..

إن الحديث عن جنرال عظيم في عهده كأوفقير في حياته الأبوية والأسرية وجانبه الإنساني هو أمر خلاب ،ربما جميع المذنبين لهم أُسر وحياة إنسانية بعيدا عن حياتهم المهنية وما يقترفوه من أخطاء أو ذنوب ،لست بصدد الدفاع عن أوفقير لكن ألم يكن من حقه الحصول على محاكمة عادلة تأخذ وقتها في تشريح ذنبه لينال عقابه على قدر الخطأ ،ألم يكن من حق عائلته ان تحظى بالوقت لترى ربها ؛ليدافع عن نفسه أن تحظى برؤيته قبل وفاته إن كان عقابه الموت ،أن تملك حتى بعض الوقت لتستوعب ما يحدث! تصف مليكة هذه الأيام كيف حدث الإنقلاب ثم اختفى والدها فمكالمته المبهمة على شفير الموت فقتله ،كيف تستوعب نفسٌ كل تلك المصائب دفقة واحدة !

عشرون عامًا في السجن :

ما حدث عقب ذلك ،مفجعٌ بحق ،يُقال بأن الأدب يشطح أحيانًا أو يبالغ في رسم الأسى والظلم ،غير أن الواقع دومًا يُطل علينا بما لا يُمكن استيعابه،-وما الأدب في النهاية إلا صورة الواقع وامتداده- ،عاشت مليكة وأخوتها الأصغر ،أصغرهم لم يبلغ الثالثة بعد في معتقل حقيقي يفتقر لأبسط سبل العيش ،طعام لا يفي نوع فاكهة معطوبة ،بيض فاسد أسود ،زنزانة قذرة مترعة بالحشرات ومُراقبة عنيفة على شاكلة الأخ الكبير* ،وإمعانا في الإذلال فُرق بين الأبناء والأم  فلم يروا بعضهم طوال ثمان سنوات تقريبًا !

 هكذا بواقعية قاصمة تروي مليكة السجن والجور وسوء المعاملة والأقسى من ذلك النسيان ،إذ تقول في أول فترة حبسهما حين علما أن الصحافة تكتب عنهم : “لا يمكن أن يطيق العالم مدة طويلة كل هذا الظلم ، لا نزال نصدق وهم الخير في طبيعة الإنسان “! وهكذا وُضعوا في السجن وصاروا كأنهم غير موجودين ،محض أشباح !

تتحدث مليكة حين هروبها عندما رأت العالم يمضي وتمر الصباحات عاديةً يجلس الناس على المقاهي يشربون الشاي ،كأن شيئا لم يكن ،أعتقد أن هذا بحق يكون قاسيا على المرء المقهور أن العالم يمضي على عهده دون أن يَختل قيد أنملة ،ثم تستفيض بفلسفة أحيانا فتقول أن هؤلاء الناس ليسوا أوفر حظا إنهم مساجين “العمارات مثل أقفاص الأرانب والنظراتالفارغة والفق والتعب والضجيج عديم الجدوى”.

تجد نفسك وأنت تقرأ حكيها تنغمس بهدوء في التفاصيل حتى تتوحد معها وتحس كما لو أنك تعيش معها تفاصيل الأحداث فتمتقع لضعفها في السجن وتلهث ويدق فؤانك بعنف كأنك تهرب معها ،وتبتسم دامعًا حين تحقق انتصارًا ،إنه حكي آسر بحق ،ستجد نفسك تكفر وترتعش حزنا  وكمدا وتسأل الله بتيه كمليكة.

قضى الملك الحسن الثاني الذي كان أباها الثاني عليهم بالسجن في ظروف لا إنسانية وهم أطفال بعد ولم يُصدِر عفوا إلا بعد عشرين عاما ومحاولة هروب ،ومضت حياته دون تغير يُخطط لإخراج الفرنسيين واسترداد مساحات المغرب المسلوبة ويحكم بالقوة ،وكان يمكن أن تموت مليكة وإخوتها فتنتهي القصة -وهو ما كان مُخططا له – غير أن هروبهم ومطالبتهم باللجوء والحديث عن خبايا العلاقة مع الملك والتي تُسرد من الطرف الآخر غيرت التاريخ أو على الأقل استعرضت الوجه الذي كان مخططا إخفاؤه ..

كتاب السجينة الذي خطته ميشيل فيتوسي من رواية مليكة كتاب خالد ،يفتح مناطق كثيرة ويترك بعضها أيضا في الظل لكنه يتركك أمام تساؤل عالق لا يتزحزح ،تُرى من يُحاسب على فاتورة الزمن المهرق في غياهب الظلم ؟

*الأخ الكبير :شخصية متخيلة في رواية 1984 لجورج اوريل كانت تراقب الناس بشكل فج ،صارت العبارة رمزا للمؤسسات التي تراقب الناس وتصادر الحريات الأساسية .