آلاء عمارة
آلاء عمارة

د

“مشان الله ما تضربوني”.. أيها السادة، أقدم لكم البشر متجردين من عقولهم!


“مرحبًا، اسمي مُحمد، طفل سوري، كنت في طريقي للبيت من المدرسة، وجاء رجال لا أعرفهم أخذوني رغمًا عني.. وظلوا يضربوني، توسلت لهم باسم الله، لكنهم لا يرحموني، لم يشفقوا على طفولتي، نهبوا برائتي، وكسروا كبريائي، حرموني من حضن بيتنا الدافئ، ولعبتي المخلصة، نسيت مذاق طعام أمي، ومداعبة أبي لشعري.. أُشهدك يا رب أنني توسلت بك، ولم يتركوني.. وما ذنب أهلي يشاهدون إهانتي؟ أين حضنك يا أمي؟ تعالى يا أبي طيب جروحي، وامسح على شعري وخفف آلامي، مشان الله لا تتركوني لهم!”

هذا حديث الطفل “محمد فواز القطيفان” الذي تخيلته، ولكني حاولت ترجمة بعض الكلمات التي يعجز هذا الصغير عن إدراكها. أما عنه، فهو طفل من سوريا، اختطفته عصابة بغية فدية مقدارها 500 مليون ليرة سورية، أي ما يعادل 140 ألف دولار تقريبًا، لم يستطع الأهل دفع هذا المبلغ، فأرسلوا فيديو للطفل يتعرض للضرب والإهانة. (لا أنصح بمشاهدته) 

ربما إذا قُلت: “إنّ ما حدث مع الطفل مُحمد أمر عادي في مثل هذه الحالات”، سينعتني بعضكم بالقسوة، لكن رفقًا بي، اقرأوا تدوينتي للنهاية، وافهموا قصدي، فلنا حديث مطول بين العلم والشواهد التاريخية! 

هل سمعت عن أغلى رغيف خبز في التاريخ؟ (ثمنه ألف دينار)

ربما إذا كنت مصريًا أو تهتم بتاريخ مصر، فلا بد من سماعك بالمجاعة التي حلت على البلاد في عهد الدولة الفاطمية، وأُطلق عليها “الشدة المستنصرية”، نسبة إلى الخليفة الفاطمي “المستنصر بالله”. كانت أيام بشعة على أهل مصر، لا أريد الخوض في تفاصيلها من فرط القسوة! لكن يكفي أن أخبرك بالخلفية الذي باع ما يملك كي يحصل على بعض الطعام! 

في تلك الأثناء، كانت هناك سيدة ثرية سمعت عن وجود دقيق عند أحد التجار، وكان عليها دفع ألف دينار مقابل جوال دقيق (بمعنى شوال)، لكن الطريق خطر! فاستأجرت مجموعة من الرجال لحماية الدقيق، وما إن اقتربت من منزلها، حتى التف حولها الفقراء وانهالوا على الدقيق، فما استطاعت الحصول إلا على بعض الدقيق بملء كفيها، دخلت مهرعة إلى منزلها، وخبزته، وذهبت نحو قصر الخليفة، ثم صرخت قائلة بسخرية يائسة: 

“يا أهل القاهرة.. ادعوا للخليفة المستنصر الذي أسعد الناس بأيامه، حتى حصلت على هذا الرغيف بألف دينار!”

هل يتوقع أحد أنّ هذه هي مصر؟ كيف للزمن تغيير الأمور بهذه الطريقة؟ لقد صدق من قال “بقاء الحال من المحال”، لكن اللافت للنظر هو تحول أهل مصر من أشراف إلى مجرمين، إلا من رحم ربي. وآسفة للغاية لذكر التالي. 

لقد وصل بهم الحال إلى أن يقتلون بعضهم، ويأكلون اللحوم البشرية من فرط الجوع، حتى إن تعداد المصريين وقتها قلّ بصورة غير مسبوقة. لقد أثار الجوع غرائز البشر، ومنعهم من التحكم في عقولهم، وانهارت قوانين البلاد والشريعة مقابل تلك الغرائز الحياتية. 

مرعبون هؤلاء البشر! 

هناك رواية للكاتب البرتغالي “جوزيه ساراماغو”، الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1998، إنها رواية “العمى”. وفيها أتى الكاتب خصب الخيال بمرض لم يعرفه في بداية أو نهاية الرواية، إنه فقط مجرد عمى يصيب الناس عن طريق الهواء، ووضعهم في حجر صحي قاسٍ بمستشفى مهجورة، لا تصلح للحياة البشرية، وكان الضباط يقدمون لهم الطعام والشراب. بعد عدة أيام، امتلأت المستشفى بالمصابين، وفي أحد الأيام خرج المرضى للحصول على الطعام، ولكنهم لم يجدوه، لقد سرقه فريقًا آخر يحتمي بسلاح! 

بالرغم من أنّ الطعام كان يكفي الجميع، لكن انتهز هؤلاء الأشرار الفرصة لابتزاز الآخرين. وكان لهم ما أرادوا، ورضخ الضعفاء من أجل الطعام. ولك أن تتخيل مقدار القسوة والظلم الذي تعرض لهما الضعفاء، والأدهى أنّ أولئك الأشرار كانوا عميانًا أيضًا! ولم يكونوا في حاجة لسرقة الطعام، لن يزيدهم شيئًا! 

استطاع الكاتب إبراز الخير والشر داخل البشر حتى في أصعب الأوقات التي قد يمرون جميعًا بها، كل ذلك داخل عالم فوضوي، بلا قوانين، والعقل ملغي، فقط الغرائز تتحدث، والكلمة العليا لصاحب السلاح! والسؤال، هل إذا أُتيحت الفرصة للضعفاء كي ينضموا لصفوف الأشرار، سيفعلون؟ 

حسنًا، إجابة هذا السؤال نسبية، ففي مثل هذه العوالم، يضطر الضعفاء للتخلي عن مبادئهم دفاعًا عن غريزة البقاء التي تصرخ بداخلنا كل يوم. ربما يفضلون الانضمام لصفوف الأشرار فعلًا، وربما يفضلون الذل ولا يؤذون إلا أنفسهم عند الرضوخ للإهانة. 

“عندما تتحدث الغرائز، فليلزم العقل مقعد الصمت”

أنا ومن بعدي الطوفان.. في العالم كله

في إحدى محاضرات الدراسة، شرحت لنا محاضرة سلوك بعض من الحشرات عند تعرضها للجوع من خلال فيديو علمي. بعد قليل، لاحظنا هجوم الحشرات على بعضها. أجل، لقد لجأوا إلى أكل بعضهم من أجل البقاء على قيد الحياة! ربما تكون هذا الحشرات أشقاء أو أم وابنها، لا فرق! إنّ البقاء أغلى وأهم من أي شيء، ولو أتى الطوفان وهناك قارب نجاة يكفي لشخص واحد، لن يتذكر أحد غير نفسه. إذًا، الأمر لا يقتصر على البشر فقط، إنه في عالم الحيوانات أيضًا!

لا تخف يا صغيري.. لن يفلتهم الله أبدًا

أكاد أجزم أنّ فيديو ضرب ذلك الطفل عارٍ ينتفض له جسدي، ولا أنصح أحدًا بمشاهدته، حتى وإن كان بدافع الفضول. لا تفعل ذلك رجاءً. أما عن أولئك الخاطفين، فأهنئهم، لهم عند الله لقاء، كلٌ آتيه وحده. وإنه لموقف لو تعلمون عظيم. ربما تكون كلماتي الآن عاطفية بعض الشيء، لكن خبرتي المتواضعة جدًا في الحياة تؤكد أنّ هؤلاء سيحصلون على جزائهم في الدنيا، وأمام أعين محمد وأهله، حتى تُشفى قلوبهم من القهر، وفي الآخرة هناك موعد أكد رب العالمين أنه لن يخلفه. 

تحمل يا صغيري، وأعتذر لك عن قسوة الحياة التي طالتك في أيامك البريئة هذه، لا أعلم ماذا أستطيع تقديمه لك، ربما كلمات تبرز بشاعة البشر تحت ضغط المعاناة، ولكن هذا ليس مبررًا لهم، كلا، بل تأنيب لإلغاء العقل واتباع الغرائز. أتعرف يا صغيري حكمة الله – عز وجل – في الشرائع التي أنزلها للبشر؟ إنها بالطبع حكم وليست حكمة واحدة، لكن منها أنه تعالى يعرف كيف يتأثر البشر بغرائزهم إذا ألغوا استخدام العقل، فأنزل لهم شرائعًا فيها قوانين صارمة، وأمرهم باتباعها. 

لا تخف يا صغيري، الله معك وجنوده حولك، وكل ألم شعرت به، هو عند الله لعزيز، كن بخير دائمًا، نم بسلام “واصبر لحكم ربك، فإنك بأعيننا”