نادين عبد الحميد
نادين عبد الحميد

د

ما كان يدور في عقلي في “سكاشن التشريح”

على الأغلب فإن من يقرأ هذه الكلمات ربما لا ينتمي إلى فئة الأطباء ، لذلك فليس من المتوقع أنك ستحفز ذاكرتك لتسترجع مثل هذه المشاهد الواردة في هذا الحديث ، ولكنك ربما قد تكون تعايشت معها في حدث طارئ ولكن بحدة وتكرار أقل من الذي يعايشه الأطباء وخصوصاً الطلبة منهم.

في السنة الأولى والثانية، تعتبر دراسة مادة التشريح شيئًا إجباريًا لابد لجميع الطلبة أن يجتازوه حتى يصبحوا مؤهلين للمرور بما هو أكثر تعقيداً في السنوات المقبلة، وهذه الدراسة تستوجب المرور على ما يسمى “بالمشرحة” مرتين أو ثلات مرات اسبوعياً، الأمر الذي يدفع من يستمع إلى هذا الكلام إلى الشعور بالخوف أو التقزز، نعم ! لقد اتخذت هذا الموقف مثلك تماماً في زياراتي الأولى وقد تعايشت مع الخوف لرؤية أمامي جثة ليست تماماً كما تصور عقلي أو شَكل من خيالات، حتى اعتدت الأمر بالشكل الذي جعلني لا أخاف منهم ولا يخافوني بالتأكيد، أصافحهم في بداية “السيكشن” متعرفة على ملامح الجثة التي سندرس عليها اليوم وفقًا لمقرر محدد في جدول دراسي مزدحم، بعد مرور أول ثلاثة أشهر في هذه الكلية، يعتاد جميع الطلبة التعامل مع الجثث بهدف الفهم والحفظ والتعرف على جسم الإنسان جيداً في محاولة من كل منا أن يهيئ نفسه لكي يصبح طبيباً أو جراحاً ناجحاً في المستقبل.

وفي الأوقات التي تتزامن مع اقتراب الامتحانات العملية الخاصة بهذه المادة، تشهد المشرحة موسماً مزدحماً فتصبح المكان الأكثر رواجاً على مستوى المبنى الجامعي، ويتدافع جميع طلاب العام الأول والثاني مقبلين على هذه الجثث كما لو كانوا رفقاؤهم الأقرب على الإطلاق، ولكن أرجوك لا تتخذ منا موقفًا هجومي كما لو كنا فاقدي للرحمة أو عديمي الإحساس، لا يا صديق .. فإننا نفعل هذا بدافع العلم مع الحرص التام والشديد على ألا يتم التمثيل بالجثث أو إنهتاك حرمة الله. قد يظن البعض أن هذا يعتبر انتهاكاً لحرمة الموتى، ربما لن أقبل أن يحدث هذا لأحد أصدقائي أو معارفي، ولكن أجد التبرير في نفسي لأننا نحاول قدر الإمكان التجهيز  والاستعداد لإحياء النفس فيما بعد وأراها نية صالحة ربما يغفر لنا الله هذا لسلامة النية . كما أننا نسعى للحفاظ على حياة الإنسان الحي الذي أصبح منتهكاً حياً أو ميتاً.

ولكن نحن لسنا بصدد هذا الموضوع الآن، بينما كان يسعى الجميع للتعلم والمراجعة، واستجماع أكبر قدر من المعلومات، اتخذ عقلي وقلبي وجهة عاطفية بحتة أو ربما فكرية، وربما كنت أفكر بنهايتي المأساوية بعد أن انتهكت حرمة الموتى وربما تخيلت نفسي في مكانهم وأنا أنظر إلى جسدي من فوق سبع سموات بينما يعبث به طلبة الطب الذين قد قست قلوبهم مثلما قسى قلبي على هؤلاء الموتى.

ولكنني أيضاً لم يكن هذا الشاغل الأكبر لذهني في هذه اللحظات، لقد كنت أفكر في نهاية الإنسان بشكل عام، ترى هل صاحب هذا الجسد كان وزيراً أو موظفاً عادياً، وربما أحد الفاسدين الذي قتله صاحبه وألقى به بعيداً عن الأنظار دون أن يواري سوأته لأنه كان على خلاف معه فعثر عليه أحد عمال مشرحتنا المخضرمين وجاء به إلى هنا، وربما يكون هذا الجسد لإحدى الأمهات اللاتي يموتن في حوادث دون أن يجدهن أولادهن فيبكون عليها وقلوبهم يحرقها الفقد والألم والوداع، وفي إحدى المرات عثرت على جثة إمرأة كانت تطيل أظافرها بشكل جعلني أظن أن هذا الجسد كان لإحدى السيدات الجميلات.

ما أثار عقلي حقاً أننا جميعاً نتشارك في نهاية واحدة، قد يحسن الله خاتمنا وهذا ما نرجوه ونأمله دائماً، وقد يعاقبنا في هذه الدنيا بذنوبنا فيكفرها عنا بهذه الطريقة المؤسفة، ولكن الأمر المؤسف حقاً غرور الإنسان ووهمه أنه خالد، اعتقاد المرء منا أن الإنسان ليس إلا جمالاً وعيون وشعر منسدل أو منكبين عريضين، والنهاية واحدة لا يكاد المرء يفرق بين جسد وأخر بعد الموت، جميعناً سواء، تذبل الملامح ويتجعد الشعر و ينكمش الجلد ويذهب الجمال، وتصبح مجرد لحماً فوق عظام، تصبح على صورة لا يستطيع أن يميزها أحد ممن كنت تغضب الله لأجله في الدنيا.

يفنى الجمال والتقوى باقية، ويصمت الصوت العذب، ويبلى الجسد الممشوق و تنكمش العضلات القوية المفتولة، ويذهب كل ما كنت تعبده وأنت لا تدري، تعبد الجمال و تجري وراء المزيد والمزيد من صورة حسنة فانية .. يا ترى هل إذا رأينا أنفسنا بعد الموت هل نستمر على ما نفعله الآن ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.