عبدالرحمن عرفة
عبدالرحمن عرفة

د

لن أقوم للمعلم، ولن أوفه شيئاً!

يتميّز الفرد العربي عن بقيّة أفراد سطح هذه البسيطة بمقدرته اللغوية العالية. فالسجال بين اثنين يتخاصمان من خلفيات عربية منحتهم إياها الصدفة الوراثية الجغرافية، سيتضمن غالبًا شيئًا مِن العبارات والأساليب التالية:

أسلوب «التسقيط» وتقليل قيمة الخصم المقابل. وثانيًا وهو الأهم أسلوب المقارعة اللغوية والتشدّق الأجوف فقط من باب الهزيمة البلاغية إن صح التعبير. فتجد نفسك أمام عبارات من نمط: «أنّى للجبل أن يصارع فأرًا!» «ومَن أنت حتى تتكلم عن فلان؟» «ومَن أنت حتى تنتقد علان؟» وهلم جرًا على تأكيدات تقودك إلى نتيجة واحدة، أن الفرد الذي أمامك هو عربي أصيل، وكما هو معروف أن مهنة العرب الرئيسة عبر التاريخ كانت تجارة الكلام واللغو الفارغ جميل الشكل والمبنى، الذي يسمى شعرًا.

لذلك، قد لا يكون هناك ضيرًا كبيرًا في هذا الأمر.

أما المأفون الحقيقي الذي سنوجه له النقد هنا، هو ذلك الذي يصدق الكلام ويعتبره «حقيقيًا» لمجرد أن النبرة التي قيلت فيه هي نبرة جميلة ولغة شعرية عذبة وأسلوب رصين. مثلًا صدفت منذ مدة اقتباسًا لخوسيه ساراماغو صاحب الرواية التي حصدت نوبل يقول: «هل رأيتم ذئبًا أو حيوانًا يعذب حيوانًا آخرًا؟ لا، القسوة هي اختراع بشري.»

على الرغم من أن العبارة والاقتباس جميل كلغة وعاطفي وشعري نوعًا ما إلا أن الحقيقة التي في داخله لا تساوي نصف فرنك صدئ مع الاحترام لساراماغو ولغيره. لأن القسوة صحيح فعل بشري إلا أن الرحمة أيضًا فعل بشري! مثلًا خذ هذه الاقتباس التالي مني وانسَ ساراماغو ونوبله. هل صدف أن رأيت ذئبًا يطبطب على رأس ذئب ويمسح دموعه؟ لا، لأن الرحمة اختراع بشري أيضًا!

الفكرة هي أنّ قوّة اللغة وشعريتها لا تعني صحة المعنى الذي تحمله، على العكس دائمًا ما يكون لغمًا يفخخ عقلك فقط كي تقتنع، فتستدرج عن غفلة دون أن تدري. هناك فرق بين (الصح / الخطأ) وبين (الجميل / البشع). إن أردت الأول فعليك بالعلم والأدلة والنقاش، أما إن أردت الثاني فعليك أن تنسى الأول وتتجاهله وتتذوق فقط المعنى بغض النظر عن قيمته، على العكس غالبًا سيكون المعنى قمامة في جوهره، كمعظم شعراء الإباحية وتمجيد السلطان والهجاء والغزل وما إلى هنالك.

الاستثناء موجود نعم، هناك شعراء فلاسفة، كالخيام والمعري وغيرهم. إلا أنهم يبقون الأقلية أمام الخط العام.

إذن، الأسلوب – الشفوي أو الكتابي – ما يزال عادة «هؤلاء» في التسقيط والتحجيم من المقابل أو تفخيم من يريدون له ذلك. والذي غالبًا ما سيكون صاحب كرش كبير، وشعر أبيض، وشارب كث عديم الفائدة.

البداية مع الأستاذ:

قديمًا، لاسيما في عقد السبعينات والستينات كان الأستاذ لقب وليس وظيفة. فلو كنت دارسًا للهندسة الكهربائية أو لطب الأسنان أو لمعهد زراعي في أقاصي الصحاري، إن كنت حاذقًا وذو مكانة جيدة ومحترمة، سيطلق عليك لقب «الأستاذ» أي أنّك الشخص الفطين المحترم في الفكر والسلوك، بغض النظر عن مهنتك.

أما الآن فمفهوم الأستاذ الذي كان سابقًا يجب أن تقوم له وتوفّه التبجيل والتجليل لم يعد موجودًا مطلقًا. ليس المفهوم، بل ذلك الأستاذ نفسه كشخص.

لا يوجد الآن أساتذة محترمين، يلبسون الرسمي والطرابيش، يقرأون ويكتبون ويدخنون. كل ما يوجد الآن هم مجموعة من «المدرسين برواتب» ليس إلا. ولا يجب أن توفهم شيئًا. بل في بعض الحالات يجب عليهم هم أن يعطوك ويوفوك وليس أنت حتى.

صدقني لولا أنّه يقبض راتب من وراء عمله لما علمك حرفًا. مجرّد «مهنة» يا عزيزي. انزع هذه الفكرة الإنسانية والهالة التقديسية لشخصيات الأساتذة والبروفيسورات ومن حذا حذوهم. مفهوم الأستاذ النبيل الذي يُقام له لا وجود له إلا في شطور الشعراء، وهو الذي يدرس بغية العلم والفائدة بدون الحصول على مقابل.

ذلك الذي قد يسافر إلى مجاهل افريقيا لكي يعلم الناس، لو أراد فعلًا أن يعلم الناس ويقضي على الجهل. أما نماذجنا الحالية فهم حياديون عاديون، ليسوا سيئين ولا جيدين. لا لا، ليست هذه فكرتي. فكرتي هي أنها مهنة مثل غيرها من المهن. شيء عادي، ليس مقدسًا ولا مُبجلًا.

مجرد عمل نفعي تبادلي يحصل البعض من وراءه على أجرته، كما بقية المهن التي يمارسها الناس. أما مفهوم قم للمعلم ووفه التبجيل والزنجبيل فهوم مفهوم شعري بلاغي لا قيمة حقيقية له.

وكما قلنا، أولئك الذين يقتنعون بفكرة ما فقط لأنها قيلت بلغة قوية وببلاغة عالية، هم بسطاء في تفكيرهم.

الطبيب:

الرجل الآخر الذي يُعطى قيمة عالية دون أي سبب حقيقي منطقي هو الطبيب. يا صديقي، مهنة الطب مهنة عادية وغير إنسانية كما يدعي البعض. ذلك الذي يقول أنّ الطب شيء إنساني لأنه يعالج آلام الناس، شبيه بمن يقول أن صاحب مطعم الشاورما هو إنساني لأنه يملأ بطون الشعب ويسد جوعهم! هل أدركت الآن حجم هذه التبهيرات التي لا فائدة منها؟

ليس قدحًا في الطب وأهله. لا، ليست هذه الفكرة، الفكرة إعادة الموضوع للأصل وإزالة غبار التجليل عنه. مجرد مهنة كسائر أخواتها. ليست إيجابية وليست سلبية، هي حيادية. مهنة تدرس في الجامعات لكي تنزل لسوق العمل وتحصل على الأجرة ضمن علاقة مقايضة تبادلية نشأت منذ فجر البشرية وتطوّرت مع مفهوم العقد الاجتماعي، وزاد ذلك أكثر مع نشوء مفهوم الدولة والمجتمع. فاختلفت المسميات فقط، فالزبون، والمريض، والطالب، كلهم نفس المستهدفين لسلع مختلفة.

الطب والطبيب المقدس الوحيد هو ذلك الذي يعالج الناس بدون مقابل، أي أنه لا ينشد هدف وراء عمله، فيكون هنا إنسانيًا فعلاً. أو يسافر لأقاصي الأرض كي يعالج من لا يملكون شيئًا. وهكذا. أما النماذج السائدة فهي نماذج مهنية بامتياز، يمارسون وظائف حيادية ليس أكثر.

لديك ألم + لديك مال = يعالجه لك الطبيب. (الطب هنا مهنة.)

لديك جوع + لديك مال = تحصل على طعام. (إدارة مطعم هنا مهنة.)

لاحظ أن المشترك دائمًا هو المال. وفي حال زواله غالبًا ستنهار المعادلة لتساوي الصفر فورًا، لأن الموضوع موضوع ممارسة عمل ليس أكثر. مجرد مهن حيادية لا أعرف لمَ الصبغة الاجتماعية تصبغها بهالة عالية المكانة نوعًا ما.

ربما من أجل دفع النشء الجديد من أجل دخولها كونها ذات المردود المادي الأعلى. على الأقل عربيًا، فترتيب الفروع الدراسية هو ترتيب مادي بحت، أكثر فرع يجلب لك المال هو الأعلى.

الطب فالهندسة فالتدريس، فالبقية. هناك استثناءات نعم، لكنه دون نسبة المعارضة حتى. لذلك الأمر طبيعي وعادي وممل حتى.

رجل الإطفاء:

رجلنا الأخير في هذه التدوينة هو هذا. رجال الإطفاء. منذ مدة شاهدت على الفيسبوك أحد الذين يشيدون بقوّة وشجاعة رجال الإطفاء وكيف أنهم أطفئوا الحريق وخاطروا بحياتهم، ويسهب صاحبنا في الكثير من المديح والإطراء.

المثير في الموضوع أنه لا يوجد شيء مثير فيه فعلًا.

نعم هو رجل إطفاء يطفئ الحرائق، لأن «وظيفته» تحتم عليه فعل ذلك! لمَ كل هذا التغنّي والنفخ لأحد يقوم فقط بوظيفته التي يجب عليه أن يقوم بها ويتقاضى عنها راتبًا! هل أصبح حتى القيام بالواجب اللازم فعله أمر يستحق الثناء أيضًا؟ وضربًا من ضروب الشجاعة والفخر!

قد يقول أحدهم أن الفكرة تكمن في الشجاعة والقوة التي يمارسونها والخطر الذين يوضعون فيه بسبب مهنتهم هو ما يدعو للاحترام. الرد على هذا التساؤل سهل جدًا. لأن كل المهن والوظائف التي تُمارس يوميًا هي مهن خطرة وتسبب الأمراض وتتطلب القوة. فمثلًا الجلوس لمدة تزيد عن ساعتين على كرسي بشكل متواصل قد يصل إلى مرتبة سبب رئيس في حدوث أزمات القلب مع تقدّم العمر، فهل هناك أخطر من هذه المهنة وأقوى من الموظف الكسول البدين ذلك؟

لم لا تكّن الاحترام لذلك الفاسد المرتشي؟

عمال المناجم أيضًا يمارسون مهنتهم ضمن ظروف أشبه بحيوانيّة. يُطحنون يوميًا تحت الأرض ولساعات طويلة وفي ظروف أوكسجينية قد لا تصلح لأبسط متطلبات الحياة. هل شعرت يومًا بالتضامن معهم والاحترام لشجاعتهم؟

وإن أردنا أن نأخذ الموضوع لمنحى آخر مستفز مثير للجدل، لدينا ممثلي الإباحيات. هؤلاء يعرضون أنفسهم لمخاطر نفسية وجسدية شديدة أثناء ممارسة عملهم، لا سيما فيما يتعلق بحقن الهرمونات وغيرها من ساعات التصوير الطويلة والأمراض التي قد يكتسبونها من وراء عملهم. هل تشعر بشيء تجاههم؟

قد يقول أحدهم، إنهم أوباش أنجاس أرجاس يستحقون ما يحصل لهم أولئك الداعرون الفاجرون.

والرد على هذا التساؤل سهل كسابقه أيضًا، لأن الفتاة عديمة الأهل التي نشأت في ميتم ستبصق في وجهه لكي تقول له انشأ في نفس ظروفي ومن ثم تكلم بعدها. هل تعتقد أن إنسان مرفّه ويعيش في عائلة مستقرة سيقول هيا بنا نمثل الإباحيات ونعمل في هذا المجال القذر؟ لا لا يا صديق. شيء اضطراري في هذا العالم البشع. كاضطرار عمال المناجم للقيام بعملهم.

لذلك لا تتحف الناس بالأخلاق والخطب الرنانة وأنت تجلس في بيتك تعيش كالملوك. عِش مثلما يعيشون بعدها تكلم.


صدقني رجل الإطفاء خارج أوقات عمله لا يستحق شيئًا، فلو شُويت أنت ومنزلك بأكمله لن يأتي كي يطفأك، لأنه باختصار خارج أوقات دوامه. أي أنّ «عمله» – الذي يتقاضى عليه راتبًا – قد انتهى. في حين أنه ربما جارك البسيط قد يساعدك في ذلك، لأن الشجاعة والبطولة مفهوم منفصل عن المهن، فقد تجد طبيبًا كالحذاء وخياطًا يعالج آلامك بدون مسكنات ويضمد جروحك بدون قطن.

هناك رجال إطفاء يجلسون في مكاتب ولم يلمسوا خرطومًا في حياتهم، هناك معلمين قد لا يعرفون القراءة والكتابة حتى ويستحقون التبجيل والتقديس أكثر من أولئك الذي يقبضون الأموال.

هناك أطباء بدون سماعات، هناك رجال شجاعان لا يحتاجون إلى مقابل حتى يساعدوك. اكسر تلك الحلقة الفارغة يا رجل، حلقة الربط بين مهنة شخص ما، والمكانة الاجتماعية له.

فالذين يدرسون هذه المجالات السابقة ويمارسون مهنها، لا يقتصر نفخهم في مجتمعنا العربي، بل حتى لدى الجميع، إلا أنه يكتسب طابعًا أكبر عندنا، كون نزعة الأبوية وتقديس الأكبر والأقدم وصاحب الأكرش الأكبر والمخاط الأكثر هو الذي لا يزال سائدًا.


لا تقم للمعلم، ولا للطبيب، ولا لرجل الإطفاء. هم يقبضون رواتب ومهنهم مجرد عمل تبادلي ليس إلا. الإنساني والعظيم هو الذي يفعل ما يفعله بدون سبب، يعالج بدون مقابل، يعلم ولا ينتظر شيئًا، يطفئ حريق وهو ليس برجل إطفاء. كما قالها تولستوي منذ القدم:

«النبل والخير الحقيقي هو فعل الأشياء دون أن يدري بها أحد، وبدون أي سبب.»

لأن القصة هنا قصة إنسان بغض النظر عن خلفيته العلمية والمهنية. هناك أطباء جزارون بشهادات اكاديمية، وفي الوقت نفسه هناك أطباء دون أن يدخلوا كلية الطب في حياتهم كلها! معلمون لم يمسكوا قلمًا يومًا! ورجل إطفاء لم يقترب من النار في حياته.

لن أقوم لأحد، ولن أوفّهم شيئًا. ربما كانوا موجودين فيمن سبقنا ممن عاش في القرن الماضي. أما الآن فنحن محكومون بالرأسمالية والسعي نحو الحياة ولقمة عيشها. وهذا ليس عيبًا أو شيئًا سلبيًا. على العكس هو شيء حيادي فقط بدون قيمة. لا تقديس ولا تبجيل. هو أمر يجب أن يفعل فقط. مهن عادية كسائر المهن.

أما إن أصررت على ذلك، فهذا سيشير نوعًا ما إلى أنك عربي بشكل زائد عن اللزوم كما قلنا في المقدمة، نزعة التقديس والتضخيم للأكبر والأقدم وصاحب الكرش الأوسع هي نزعة عربية. وتتجلى مظاهرها دائمًا كما قلنا في تجارة الكلام الفارغ والجعجة اللغوية رنانة الصدى عديمة المحتوى والقيمة الفعلية كما جرت العادة.