ممدوح رزق
ممدوح رزق

د

لماذا كان بطل “العنكبوت” مسيحيًا؟

تقوم رواية “العنكبوت” لمصطفى محمود على شخصيتين أساسيتين: طبيب جراحة المخ والأعصاب م داود أو (مصطفى داود) كما في المسلسل الدرامي المأخوذ عن الرواية وقدّمه مؤلفها مصطفى محمود بنفسه، والمهندس راغب دميان مدير قسم أبحاث الراديوم بالقصر العيني .. كلاهما رجل علم، ولكنهما مختلفين: دكتور م داود طبيب تقليدي، يؤمن بأن “كل شيء حقيقي في الدنيا يجب أن يكون قابلًا للإدراك بالحواس، أما ما لا يُرى ولا يُسمع ولا يُشم ولا يُحس ولا يُعقل فهو غير موجود”، وإن كان يتمتع في نفس الوقت بالفضول العلمي والشره للمعرفة .. أما راغب دميان فهو عالِم مبتكِر “يبحث في سر النشاط والحيوية والنمو والتجدد، ويختار خاماته الحية من الأعضاء التي تتصف بهذه الصفات، ويهدف من عمليات الاستخلاص الكيميائي العثور على المادة السحرية الباعثة للحياة والنماء والنشاط”، كما يؤمن بأن “المخ عالم كبير .. أرشيف .. فهرس .. مرجع شامل .. كل يوم من أيام التاريخ مكتوب به ورقة في مخ  الإنسان من الأزل”.

لكن هذا ليس الاختلاف الوحيد بينهما فهناك اختلافين آخرين لا يقلان أهمية: دكتور م داود مسالم، لم يدفعه العلم لارتكاب خطيئة، أما راغب دميان سفّاح، لم يتورع عن قتل الآخرين من أجل المعرفة “إنه يسرق .. ويقتل .. نعم ربما كانت هذه الوفاة التي بدت وفاة طبيعية هي جريمة قتل دبرها بوسائله ليحصل على مخ الضحية”، “هل أنا أمام سفّاح مجنون يقتل ضحاياه بالجملة ويتخذ من الأجسام البشرية الحية حقلًا لتجاربه، أو أن ما اكتشفه ذلك الرجل من أسرار جعله يستهين بكل قيمة إنسانية في سبيل أن يضع يده أخيرًا على لغز الحياة” .. دكتور م داود مسلم، راغب دميان مسيحي.

كُتبت الرواية بضمير المتكلم، حيث تدور الأحداث بكلمات دكتور م داود كما دوّنها في المذكرات التي تركها قبل موته، وهذا ما يجعل استفهامًا منطقيًا يفرض نفسه: إذا كان مصطفى محمود يمتلك ذلك الوعي العلمي والخبرات الكيميائية والتشريحية وكذلك القدرة التخييلية التي لدى راغب دميان في الرواية وساعدته على إجراء تجاربه واختباراته؛ لماذا لم يجعل دكتور م داود يقوم بدور راغب دميان؟ .. لكنه استفهام لا يتطلب جهدًا للإجابة: إن (مصطفى محمود) لن يجعل (مصطفى داود) قاتلًا ولو في سبيل العلم .. لن يعطي حتى دور الراوي في القصة لراغب دميان؛ إذ أنه يحتاج هذا الدور للتأكيد على طهارته كشخص يحترم “القيم الإنسانية”، ولإثبات رغبته في المعرفة، وتقصّي الأمور العلمية التي يجهلها .. في المقابل فإن مصطفى محمود كان يحتاج لأن يجعل رجل العلم السفّاح في الرواية مسيحيًا.

مرة أخرى: لماذا؟

لنقارن بين محطات الماضي التي انتقل إليها كل من راغب دميان، ودكتور م داود: على سبيل المثال كان راغب دميان جنديًا في الحرب الأهلية الإسبانية، بينما كان دكتور م داود بهلول “حلبي”، تاجر عقاقير “فارسي”، أسقف “سيناوي”، عاشق “أندلسي”، فارس “عربي” في معركة صليبية …

أراد مصطفى محمود في رواية “العنكبوت” أن يجسّد تصوّره الخاص حول الشرق بهويته الإسلامية (ذات الجذور المتعددة)، والغرب بهويته المسيحية (التي لا يعطّل سعيها الدائم للتفوق والهيمنة أي اعتبار قيمي) .. النهم المعرفي المغلّف بالتسامح، والتطور العلمي المقترن بالوحشية .. كان راغب دميان يتفوق معرفيًا وعلميًا على دكتور م داود .. لكن دكتور م داود كان أكثر أخلاقية من راغب دميان.

ثمة مشهد محوري في الرواية اجتمع خلاله دكتور م داود وراغب دميان في محطة ماضوية:

“كان ينظر إلى الأشياء وكأنها تشف له عن معان وأشكال غير أشكالها .. وكان ينظر إلى وجهي ويبتسم كالأطفال ويهمس:

ـ أناديك بأي اسم .. أنت لك أسماء كثيرة أكثر من ألف اسم .. أناديك باسمك أيام المماليك .. أم أيام الأتراك .. أم أيام الخلافة الفاطمية .. تصوّر أن اسمك كان في يوم من الأيام “بهلول الحلبي”.

وضحك..

وخيّل إليّ أن الاسم يبدو مألوفًا بالرغم من غرابته..

وأردف دميان وهو يبتسم:

ـ بهلول .. بهلول .. تصوّر .. أصلك كنت بهلول الخليفة .. البهلول الذي تتشقلب أمامه لتضحكه .. كنت قصيرًا طول ذراعي هذا .. نعم .. وهذا أنت أراك أمامي الآن وأنت تتشقلب زمان (وأغرق في الضحك) .. كنت ظريفًا جدًا أيها البهلول.

ثم عاد ينظر إليّ في وقار..

ـ الدكتور م داود دكتوراه في جراحة المخ من برلين .. رجل علم محترم. يقف له كل من يراه .. أين هو من بهلول الخليفة”.

نلاحظ أن راغب دميان يخاطب دكتور م داود لا كفرد وإنما كمواطن في حقبة سياسية .. يختزل وجوده في هوية جماعية حاكمة .. تلك هي النقطة التي تمثل المقصد الجوهري للرواية.

نعرف في هذه الفقرة أن راغب دميان لم تكن لديه القدرة على أن يعيش نسخته القديمة فحسب، وإنما أن يدرك ما الذي كانت عليه النسخة القديمة لدكتور م داود أيضًا، بل ويحدث لقاء بين هاتين النسختين في لحظة واحدة توازي لحظة لقائهما في الحاضر .. هذه الخاصية “العلمية” تم استدعائها عمدًا لتبرير هذه المقابلة بينهما في الماضي من أجل تثبيت المدلول “السياسي” لما يمثله كل منهما في الرواية.

كيف عرف راغب دميان أن بهلول الحلبي هو النسخة الأقدم من دكتور م دواد؟ .. هل كان راغب دميان هو “الخليفة” أو “رمز الاحتلال الغربي”؟ .. هل دكتور م داود هو نموذج الارتقاء الذي صار إليه الشرقي الذليل بعد التخلّص من الاحتلال؟.

“كنت وأنا طفل أحلم بأني أقود الجيوش، وأفتح الأمصار والأقطار .. وكان قلبي يخفق طربًا وأنا أقرأ عن جينكيز خان وهانيبال والإسكندر وتعذبني الأماني والآمال”.  

كان يمكن لرواية “العنكبوت” أن تدور حول العلم، الخيال العلمي، تناسخ الأرواح، الأزلية، الخلود، لكن مصطفى محمود استخدم هذه المفردات في جعل الرواية تدور حول ثنائية مفاهيمية تقليدية تكتشف ذاكرتها وتستشرف المستقبل من خلال وسيطين بشريين متنافرين .. جعلها تدور حول التاريخ أكثر مما تستهدف الزمن .. عن النمط الحضاري أكثر مما تقتحم فكرة الخلق نفسها .. لهذا لم يكن غريبًا أن تأتي خاتمة الرواية فيما يشبه العقاب الإلهي .. الخاتمة التي كرّست ـ رغم الطابع الحميمي المشوّق للرواية ـ غريزة “العلم والإيمان”.

https://mamdouhrizk0.blogspot.com/