ريحان مرغم
ريحان مرغم

د

كالصغير يشتاقُ عيدًا، وأيّ عيد؟!

جاء يوم العيد .. يوم الخروج من زمن إلى زمن آخر وحده لا يستمر أكثر من يوم، يوم السلام، والبشر والضحك والوفاء وقول الإنسان للإنسان: وأَنتُم بخير! — الرافعيّ

كنّا  ننتظر تلك اللّحظات بصبر جميل ويقين مفعم بالحبّ والأمل والطفولة!
وكان أحدنا يخلد ليلتها إلى النوم باكرًا أملًا في أن يستجلب يوم العيد بأقصى سرعة، ويبيت على أحلامٍ وتوقّعاتٍ وتدبيراتٍ وحماسةٍ وترقب.. وتبيت البذلة معنا!
وكنا نخاف على الملابس أكثر من خوفنا على أنفسنا، لا لكونها سيمة العيد وزينته فحسب، بل لأنّ طعمها خاصّ فريد، ولأنّ فرحتها عظيمة الأثر، استثنائية، في الوقت الذي كنّا لا نحصل فيه على ألبسة جديدة فعليّة إلّا لمناسبات قليلةٍ، كان العيد إحداها!
فنحرص حينها على أن نظهر بحللنا البهية، وتظهر ملابس الآخرين معنا، فننظر إلى سراويل بعض، وتنانير بعض، وأحذية بعض، وطريقة تصفيف الشعر، والحلية، والبذلة، والحنّاء، ونبتسمُ، ونجتذلُ، ونغارُ، ونتسابقُ، ونسابقُ فرح الأيّام!
وكانت العيديّة شغلنا الشاغل! لا تفنى، ولا تزول، ولا تقدم، ولا تسقط، ولا تُلغى، مهما كانت الظروف.. إنّما هي بهجة العيد، ومكنون المحبة فيه، وعربون الفرح، وينبوع السعادة!
وكانت الحارات والأزقّة والشوارع الضيّقة والفسيحة مفعمةً بضحكاتنا، ونداءاتنا، وأصوات طرق الأبواب ونحن نمر على الجيران واحدًا واحدًا: صحّ عيدكم كل عام وأنتم بخير!، وصدى أغلفة الحلويات التي تهدى لنا، وأثر الابتسامات التي توزع علينا، والنظرات التي تحتفي بنا وبملابسنا الجديدة الجميلة!
وكنّا نسأم من والدينا، وهم يتّصلون بالأهل واحدًا واحدًا، يقضون معهم الساعات الطويلة في كتابة الرسائل الورقية، والحديث عبر الهاتف العتيق، يتبادلون الدعوات والتهاني والأمنيات، ويسألون عن سعيدٍ، وجميلة، وابن محمّد، وزوج إسماعيل.. ثمّ تمرّ الأمسيات في اللمة، والزيارات، والترحيب، والابتسامات الكثيرة الكثيرة!
ولم نكن نعلم -إذ سئمنا حينها- أننا سنسأم حين كبرنا أكثر، وسيغزو العالم الافتراضي عيدنا من الجوانب كلها، وستصبح رسائل العيد مملولة مكرّرة عامة، ترسل بزرّ واحد إلى آلاف الأصدقاء، فكأنها لم ترسل قطّ!
وهكذا كان عيدُنا في الجزائر، تحفوه تكبيرات المصلين في الصباح الباكر: الله أكبر! الله أكبر!، فترفع من سكينة الروحانيّة فيه، وعظمة الوحدة والالتحام..
ثمّ تجمّله المصافحات والقبل الكثيرة بين الناس، مرفقة بعبارةٍ مميزة: تقبل الله منا ومنكم، وغفر الله لنا ولكم!
وتزينه الحلويات التقليدية التي كانت أمهاتنا تسعدن بتحضيرها، من مقروطٍ، ونقّاش، وصابلي، ومقرقشات وغيرها من كل صنف ولون، ثم تتفرق تلك الأصناف الكثيرة إلى المنازل كلّها، ليأكل منها القريب والبعيد..
وترفعه إلى عنان السّماء البالونات التي نقتنيها ملوّنةً، والمفرقعات التي نفني فيها عيدياتنا، من غير كثير اكتراث للوم الأمهات وهنّ يتحسّرن على النقود التي بُذرت وضاعت!
وكانت الفرحةُ فطرةً فينا، ومضت الفطرةُ، وزالت الفرحة!
ولم نكن نعلم، أن العيدَ بمثابة الجزاء لنا: الفطرُ على إمضاء شهر كامل من الصيام، والجهاد، والصبر..
والأضحى، على تحمل تعب أيام الحجّ، وعذاب السعي إليه، ومشقّة السّفر، وفروض الكبح!
ولم نكن ندري أن الفرحَ شعيرة، وسنة، نجزى عليها..
لكننا كنا على كل ذلك، نملأ الدنيا سعادة..

فهل كبر الطفل فينا ؟! أم هل زال طعم العيد وخمدت شعلته؟! أم هل غزانا الزيف الاجتماعي من النواحي كلّها؟! أم هل مللنا استشعار عظمة العيد وزينته؟! أم هل فقدنا طعم الحياة اللذيذ؟! 

يا لتلك الأعياد كيف مرّت! يا لذلك الطّفل البهيّ كيف أضحى يافعًا من غيرِ بسمة، راشدًا من غير فطرة!
يا لروح الأيّام التي كانت تسقينا!

كم عاشت الآمال ترقص في خيالي
من بعيد
وقضيت عمري كالصغير يشتاق عيدًا
وأيّ عيد؟!

فاروق جويدة