مدونات أراجيك
مدونات أراجيك

د

قصة الخليقة لدى السومريين

تدوينة: علي وحيد

بعد اكتشاف النار وقيام الثورة الزراعية التي أتاحت للإنسان العاقل متسعاً من الوقت للتأمل والتفكير في وجوده وكيف تم خلق الكون والنفس البشرية وغيرها من الأسئلة الوجودية التي تدور في العقل البشري، فحاول جاهداً أنْ يجد أجوبةً منطقية ومقنعة لتساؤلاته الحثيثة، فبدأ بصياغة أجوبة أخذت إمّا طابعٌ أسطوري أو حكاية لكي يسد ذلك الفراغ الكبير في مخيلته ويبني عليها ركائزه الفلسفية في تفسير ما لا يمكن تفسيره، ومن هؤلاء الذين صاغوا أجوبتهم للخليقة السومريين في ملحمتهم المسماة جلجامش التي تعتبر أعظم ملحمة شعرية أسطورية وصلت لنا من العصر القديم، ولكن في البداية يجب علينا أن نوضح الفرق بين الأسطورة والحكاية أو الخرافة.

فالأسطورة تكون قصة أو ملحمة التي تأخذ طابع القدسية والايمان بها، ممّا يجعلها من المسلمات التي لا تدعو إلى الشك فيها، أمّا الخرافة أو الحكاية فهي لا تعدو أن تكون مجرد قصة لا تأخذ طابع القدسية فتروى لغرض التسلية واللهو في جلسات السمر.

بداية الخلق لدى السومريين

سكن السومريين الحوض الجنوبي من العراق المعروفة بأرض السواد منذ مطلع الألف الرابع قبل الميلاد وأسسوا حضارة قوية وهم أول الشعوب الذين عرفوا الكتابة (وليس الأبجدية هناك فرق بين الأبجدية والكتابة) وتطرقوا إلى نظرية الخلق والتكوين من خلال الملحمة الأسطورية جلجامش، التي تأثر بها الكثير من الحضارات المتعاقبة مثل البابليين واستنبطوا منها ملاحمهم الدينية ك الإينوما إيليش البابلية، ولكن للأسف لم تصلنا ملحمة جلجامش كاملة بسبب تلف الكثير من الألواح الطينية عدا عن حالات الكسر التي صادفتها حين تمّ اكتشافها، ولكن ما تبقى من الألواح المكتشفة التي كانت بحالة جيدة أعطتنا فكرة شاملة عن الملحمة الدينية.

فالسومريين كغيرهم من الشعوب قد عرفوا الكثير من الآلهة وتبدأ النشأة عندهم من إلهة واحدة أنثوية أزلية لا بداية لها مجتازين بذلك جدلية الزمن الذي يصعب فهمه في ذلك الوقت، فهذه الإلهة انبثقت عنها كل شيء وكان اسمها (نمو) وهي المياه الأولى فجعلوا بذلك عنصر الماء الجوهر الأساسي للخالق والمخلوق، بعد ذلك أنجبت نمو من لا شيء ولداً اسمه (آن) وهو إله السماء وبنتاً اسمها (كي) وهي آلهة الأرض وهم كانوا ملتصقين مع بعض غير منفصلين عن أمهم نمو.

وبسبب عملية الالتصاق الشديدة بين آن وكي تكونت علاقة غرامية بينهما أفضت للزواج بينهما، وكنتيجة منطقية لعميلة التزاوج أنْ ينتج عنها ولادة إله، وكان هذا الإله فتياً وقويا واسمه (أنليل) وقد كان إله الهواء الذي قام بفصل أمه وأبيه عن بعض (أي السماء والأرض) بفضل قوته الخارقة، حتى يجعل لنفسه مساحة يتجول فيها فكانت ضيقة كثيراً عليه بسبب التصاق أبويه مع بعضهما فرفع (أنليل) أباه (آن) الى الأعلى فتكونت السماء وبسط أمه (كي) إلى الأسفل فتكونت الأرض ومضي يفصل بينهما حتى وصلت الأرض والسماء إلى ما عليه الآن.

إلّا أنّ الإله الفتي (أنليل) لم يرضى أنْ يعيش بظلمةٍ دامسة فأنجب (أنانا) التي كانت إلهة القمر، وهي من نتاج علاقة غير شرعية بسبب اغتصاب (أنليل) لأمها التي حبلت بها وكان أسمها (تنليل) والقمر الممثل ب (أنانا) انجبت ابنها (أتو) وهو إله الشمس، هنا قد يجد القارئ صعوبة في فهم من أين أتت كل تلك الآلهة فجأةً علماً أنّها لم تذكر في البداية، فابتدعوا السومريين وجود الآلهة من العدم حتى تسدّ الفجوات في الملحمة وجعلوا من عملية التزاوج أو الاغتصاب طريقة لتكاثر الآلهة فيما بينهم وهذا بعض من نصوص الملحمة:

في جبل السماء والأرض

أنجب آن أتباعه اﻷنوناكي

وأنليل الذي أخرج البذور من الأرض

وأراد أن يبعد السماء عن الأرض

وأراد أن يبعد الأرض عن السماء

بعد أن تكون لدينا نظرة عامة عن بدء تشكل الكون من أرض وسماء وغيرها ننتقل للعنصر الهام في الملحمة وهي خلق الإنسان.

خلق الإنسان

إنّ ملحمة جلجامش وضّحت لنا عبر ألواحها التي وصلت إلينا الأسباب الرئيسية التي دعت للآلهة لعملية الخلق الكائنات ومنها الإنسان، وذلك بعد أن قامت بتنظيم الكون وخلق المكونات الأساسية للحياة، أصاب الآلهة التعب الشديد بسبب عملها الشاق خلال مرحلة خلق الكون فباتت بحاجة لمن يقوم بخدمتها ويرعى على راحتها الأبدية ومن يقدم الأضاحي والقرابين ويؤدي فروض الطاعة والولاء، فقد كان السومريين ينظرون إلى الآلهة نظرة مادية بحتة من ناحية شعورها التعب وحاجتها الماسة لمن يسهر على خدمتها.

وبحسب أسطورة جلجامش فقد تم خلق الإنسان من طين، وهو العنصر المستمد من التراب والماء ولذلك لتدليل على أنّ الإنسان خلق من نفس المكون الذي انبثقت عنه الآلهة وعُجِنَ هذا المخلوق على يد الصناع الإلهيون المهرة وهم من الآلهة الأدنى ولتكريمه فقد خلق على شكل الآلهة، وقد تولى الإشراف على عملية الخلق الإله (الإنكي) وذلك بعد توجيه من أمه (نمو) وإليكم المقطع الشعري الذي يدلنا على عملية الخلق:

أي بني قم وانهض من مضجعك

واصنع أمرا حكيماً

اجعل للآلهة خدما يصنعون لهم معاشهم

إنّ الكائنات التي ارتأين خلقها ستظهر للوجود

ولسوف تعلق عليها صورة الآلهة

اخرجِ حفنة طين ومن فوق مياه الأعماق

وسيكون الصناع الإلهيون المهرة بتكثيف الطين وعجنه

وتسرد بعد ذلك الملحمة عملية خلق الإنسان وأعضائه وكيفية تمّ تنظيم الحياة على الأرض، بعد ذلك تخلد الآلهة للراحة بعد عملها الشاق في بيتها الخاص الذي بناه الخالق لذلك الغرض، وجاء في الأبيات الشعرية تصف بها القصر الذي استراحت فيه الآلهة ما يلي:

بعد أن تفرقت مياه التكوين

وهمت البركة أقطار السماء

أنكي الرب الذي يقرر المصائر

بنى بيته من فضة ولازورد

فضة ولازورد وكأنها النور الخاطف

حيث استقر في الأعماق

الطوفان

هناك الكثير من القضايا التي عالجتها ملحمة جلجامش ووجب علينا أن نتوقف عند قضية الطوفان الذي اعتبر عذاب للبشرية بسبب الغضب الشدي من الآلهة، والطوفان الكبير الذي حلّ قد غمر أرجاء المعورة لم ينجو منه إلا القليل، والسبب الذي أغضب الآلهة للأسف غير معروف لدينا بسبب حالة الكسر والتشويه للألواح التي تتكلم بالتفصيل عن قصة الطوفان، ولم يستطع الباحثون إيجاد ألواح أخرى أو ترجمة نصوص إلا للأحداث التي تلت الطوفان فقد وضحت النصوص اللاحقة وكيف تم اختيار رجل صالح من البشر من قبل بعض الآلهة، التي كانت حزينة وغير راضية عن هذا العذاب الشديد الذي حلّ بالبشرية، فقامت على تعلميه وتقديم النصائح والإرشادات للطريقة المثلى لإنقاذ البشرية والحياة على الأرض، وبسبب اتباع هذا البشري الصالح تعليمات الآلهة فقد تمكن من إنقاذ مجموعة قليلة من البشر وعدد محدود من الحيوانات، بعد أنْ انتهى الطوفان الكبير انتهى معه غضب الآلهة وعادت الحياة إلى الأرض من جديد.

الطوفان

في ذلك الحين بكت (ننتو) كامرأة في المخاض

وانانا المقدسة ناحت على شعبها

في تلك الأيام زيو سودرا كان ملكا وقيما على المعبد

فرأى في أحد الأيام حلما لم ير له مثيل

سأقول كلامي فاتبع كلامي

أعط أذنا صاغية لوصايا

إنّا مرسلون طوفانا من المطر يقضي على البشر

ذلك حكم وقضاء الآلهة

هبت العاصفة دفعة واحدة

لسبعة أيام وسبعة ليال

ودفعت العواصف المركب العملاق فوق المياه العظيمة

ثم ظهر أتو ناشرًا ضوئه في السماء على الأرض

فتح زيوسودرا كوة في المركب الكبير

خرا ساجدا أمام أوتو ونحر ثورا وقدم ذبيحة من الغنم

وتتابع الملحمة بسرد العديد من الأحداث والبطولات والأمجاد وصف الخلود والجحيم والعديد من الأمور، ومما لا شك فيه أن أسطورة جلجامش قدمت للبشرية وللباحثين الحلقة المفقودة بين الأديان الشرقية القديمة، فالمطلع على ملحمة جلجامش سوف يجد التشابه الكبير في الأديان الشرقية والحضارات المتعاقبة مع بعض التعديل وحذف بعض المقاطع أو إضافة أخرى وذلك لإضفاء صبغتها الفكرية والثقافية عليها.

وفي النهاية لا يسعنا إلّا أنْ نقف إجلال وتعظيماً للسومريين على تقديمهم لنا تلك الملحة الشعرية العظيمة حتى أنّ الفنان القدير كاظم الساهر قد قرر بالتعاون مع الشاعر العراقي الكبير كريم العراقي على تلحين تلك الملحمة العظيمة لأنها تمثل إرث بلاد الرافدين الخالد.