أسامة حمامة
أسامة حمامة

د

سُليمان

كان منشغلا بتحريك الحساء حتى لا يلتصق بقاع القِدر، عندما رصدت أذناه أصوات صياح وضحك ماجن قادمة من ناصية الشارع، رفع عينيه مرغما ليتبين حقيقة ما يجري، فإذا بها جماعة ضخمة من الفتيان، يظهر من لباسهم أنهم تلاميذ الثانوية المجاورة، ما إن مرّوا قربه حتى رموه بوابل من الشتائم والسّباب. لم ينبس الرجل المسكين ببنت شفة، بل ظل يراقبهم بحذر وهم مبتعدون،.. فجأة من حيث لا يدري، سقط حجر كبير أمامه، تناثرت شظاياه لتصيب بعض الجالسين، قبل أن يلمحَ أحدَ أفراد عصابة المشاغبين تلك يفر هاربا وهو يصرخ ملءَ شدقيه: “وا عْزِّي سير بحالك، المغرب ماشي ديالك!” (عْزِّي: نعت عنصري بالعامية يستعمل ضد ذوي البشرة السمراء، يقابله في لغة الضاد مصطلح “زنجي”)

لم تكن تلك المرة الأولى التي يتعرض فيها “سُليمان” للإهانة، فقد ألف مصادفة المتنمرين في رحلة لجوئه الطويلة مع من تبقى من أفراد أسرته الصغيرة، كان ابتعاده عن بلده الأم نيجيريا قرارا شديد الصعوبة، لكنه يبقى بالنسبة له أفضل من المكوث هناك في ولاية كادونا، منتظرا أن يقرع الموت بابه، بعد أن خطف سابقا أرواح العديد من أصحابه وأقربائه، الذين كان ذنبهم الوحيد التواجد في المكان والزمان الخاطئين،.. فليس بالأمر الهين أبدا أن يعيش المرء حياة محفوفة بالمخاطر، أن يتيه في دوامة من الصراعات الطائفية الوحشية والعمليات الانتحارية الدموية التي تقوم بها الحركات المتطرفة بشكل متكرر، كما أن جل من يذهب ضحيتها حشود من الأبرياء، شيوخ ورجال أسوياء، عجائز وأطفال ونساء.

مشهد سقوط الحجر عند قدمي “سليمان” عاد بذاكرته إلى حادث أليم أفجعه سنة 2018، وكان دافعا قويا لعقد العزم على الرحيل نهائيا من الوطن،.. استرجع بحزن تلك اللحظة الصادمة، حين ورد إليه خبر مقتل أمه في أعمال عنف مرعبة وسط سوق شعبي، كانت هي وأخته “فاطمة” دائمتا التردد عليه نهاية الأسبوع.

أدى الاكتظاظ وتدافع الناس الخائفين ذاك اليوم إلى الفصل بين والدته وأخته، لم تستطيعا البقاء معا، لكن “فاطمة” استمرت في الهرولة بشجاعة عكس اتجاه طالبي النجاة الجزعين، بحثت عن أمها الضائعة يمنة ويسرة، فتشت جميع الأركان ولم تدخر جهدا في المناداة بأقصى ما أوتيت من قدرة (أمي ! أمي !!! أين أنت؟)، حافظت على ثباتها رغم الضجة المحيطة بها من كل جانب، رغم القنينات الحارقة والإطارات المشتعلة والحجارة المتهاطلة دون توقف،..

بعد مدة غير يسيرة من التفتيش، كاد أن يخبو أمل “فاطمة” في العثور على أمها التي ابتلعها الزحام، لكنها وجدتها في آخر المطاف،.. نعم، وجدتها ملقاة في ممر ضيق، جثة هامدة تملؤها الكدمات مع إصابة بليغة في الرأس، يبدو أن إحدى قطع الطوب المتناثرة هناك غدرتها فهوت أرضا، لتدوسها بعد ذلك أرجل العباد الراكضين فزعا من دوي طلقات الرصاص وصافرات الإنذار.

جحظ “سليمان” بنظرة فارغة إلى السماء، ثم اغرورقت عيناه بالدمع، أغمضهما لبرهة، وما أن فتحهما حتى وضع يده مسرعا في جيب معطفه الصوفي ليخرج صورة قديمة تخص والدته المتوفاة، رنا إليها ببصره طويلا، وظل يبكي وينتحب حتى جفّ البلل عن خديه،.. فقدان المرأة التي حملته تسعة أشهر في بطنها لم تكن خسارته الوحيدة، فقد مضت سنة كاملة على غياب أخته “فاطمة” أيضا، كان اختفاؤها غريبا، وقد حصل لمّا كانا يعيشان معا في جنوب ليبيا،.. الآن، كلّما أرخى الليل سدوله، لا يغمض له جفن حتى يتفكر مليا في مصيرها، هل ما زلت حية يا أختاه؟ هل سيكتب لنا اللقاء يوما ما؟..

هكذا كان “سليمان” يسرح بخياله حتى يعييه السهر فيستسلم للنوم، ونادراً جدا ما يسلم سباته من الكوابيس التي تراوده، تارة يرى أخته رهينة مستعبدة لدى الميلشيات المسلحة وتارة يراها تتعرض للتعذيب داخل زنزانة عفنة،.. يستيقظ على وقع تلك الأحلام السوداوية هلِعا في جوف الليل، بجبين يندى بالعرق وقلب يكاد يغادر صدره من هول الخفقان.

قطع أحد الزبناء على سليمان خلوته النوستالجية القصيرة، سائلا إياه عن ثمن سلطانية الحساء التي أتم ارتشافها للتو: “بشحال هاد الزّلافة دلحريرة؟”  أجابه سليمان متثاقلا وهو يعيد برفق صورة أمه إلى جيب معطفه: “ثْلاثة دّراهم أخويا!”، ناول الرجل “سليمان” الدراهم الثلاثة ومضى في حال سبيله.

ألفى “سليمان” في زوجته المغربية “سميرة”، ما يلزمه من التخفيف والعزاء في ما ألمّ به من وجع الفراق والشعور بالاغتراب،.. عقد قرانه بها حديثا بعد أن سوّى وضعيته القانونية، وكان قد قابلها أول مرة خلال فترة عمله إسكافيا في حي هامشي بالعاصمة الرباط، كان وقتها في أمس الحاجة إلى شخص يناجي روحه الكئيبة وينصت لهمومه، وكانت هي معجبة بهمته العالية وسعيه الحثيث وراء الكسب الحلال،.. اغتنم “سليمان” كل فرصة سانحة ليحكي لها فصولا من قصته، وكان يتعمد عدم الإمعان في سرد التفاصيل كي لا يسمم نفسيتها المتفائلة بالغم والشجن.

أبدت “سميرة” دعمها المطلق لـ “سليمان” في كل مناسبة، وكانت دؤوبةَ الزيارة لكشكه المتواضع في طريق عودتها من معمل الخياطة الذي تشتغل به، كانت امرأة ثلاثينية مرحة، تجعله يبتسم بصدق عند كل حديث يخوضانه، وكان “سليمان” يَعتبرُ ذلك كافيا لإنسان مكلوم مثله. تطورت علاقتهما وتحولت بسلاسة من نقطة التعارف إلى نية التآلف، فأيقنا بالرغبة في الاستقرار شريكين تحت سقف واحد وتكوين أسرة تفرح في السراء وتتآزر في الضراء،.. في البداية، لم تستغ عائلة “سميرة” أبدا فكرة زواجها من مهاجر قادم من دول أفريقيا جنوب الصحراء، كان في اعتقادهم شيئا دخيلا يتناقض مع العرف المجتمعي والتقاليد السائدة، لكنها نجحت في إقناعهم بشق الأنفس، وأقسمت أنها لا تريد بعلا غيره.

بعد مضي بضعة أشهر لهما كزوجين، أحس “سليمان” بأن عليه إيجاد طريقة يحسن بها دخله، كيف لا وزوجته تتلهف إلى اليوم الذي تصبح فيه أما، وهذا يعني أن احتياجات أسرته ستزيد مستقبلا. تشاور “سليمان” مع زوجته، فاقترحت عليه أن يضم ما يحوزه من مال إلى مالها ويفتتح مطعما متنقلا، فمأكولات الشوارع مربحة وإقبال سكان المنطقة عليها كبير جدا.

كذلك فعل “سليمان”، اشترى عربة طعام وبعض الكراسي البلاستيكية، وشرع في بيع وجبة الإفطار للمارة غير بعيد عن محل سكناه، كان في غمرة السعادة لرؤية مشروعه البسيط يزدهر، وزاد فرحا بالرواج الذي لاقته أطباق نيجرية محلية تعلم تحضيرها في الماضي من أمه وأخته، فصار يقدمها مجانا للفقراء إكراما لذكراهما الغالية.

بحلول نهاية نهار عمل متعب، تخف حركة العباد، فينظر “سليمان” إلى ساعته ثم يهم بجمع أغراضه وترتيب أوانيه المبعثرة، وقبل أن يدفع عربته الخشبية نحو المنزل، يقف بشموخ ليطالع شمس المغيب الملهمة، تنتابه آنذاك حالة من السكينة وشعور عميق بالامتنان، فرغم كل ما تجرعه من مصائب وما اعترضه من ظروف قاسية يعجز اللسان عن وصفها، وجد أخيرا الدفء والأمان اللذان لطالما افتقدهما في بلده الأم.

________________________________________

سُليمان

ملاحظة: شخصيات وأحداث خيالية مستوحاة من الواقع.

إهداء إلى جميع اللاجئين والنازحين قسرا الذين يتعرضون إلى العنصرية والاضطهاد ويقعون فريسة عصابات الاتجار بالبشر وغيرها من التنظيمات.