عبدالله الأحمد
عبدالله الأحمد

د

ساراماغو

كل كاتب تقرأ له وتنغمس في كلماته؛ لابد أن يصيبك شيئا منه. وكذلك الأشخاص في حياتنا لابد أن نأخذ منهم شيئا. شاهدت مؤخرًا الفيلم الوثائقي Jose and Pilar، الذي يتحدّث عن ساراماغو في الفترة الأخيرة من حياته، أحد رواد التشاؤم والاكتئاب، وأحد الذين سعوا من ظلمات الفقر وأحشاء الظروف الصعبة في قرية تبعد مئة كيلومتر عن لشبونة حتى نوبل.

لقد دأبت في حياتي على قراءة السير الذاتية لكل من أصادف في طريق الأدب وهذا كلّما شجعني على قراءة تلك الأعمال العِظام؛ فالكثير من الكتّاب والمفكرين لديهم ما يعينهم من ذكرياتي ومآسي على كتابة هذه الأعمال الخالدة. وأحسبني بصدد ساراماغو الذي لا أريد أن أغفل عنه بسبب الاستطراد الذي قد يكون عاملًا وراثيا في الحديث أو حتى في الأفكار التي في رأسي.

مارس الصحافة والترجمة كما كان شغف ماركيز، لكن قبل ذلك لم تكن الأمور سارّة في حياته، فقد كانت البدايات في صناعة الأقفال وميكانيكا السيارات، كل ذلك لم يساعده حتى اتبع شغفه في الصحافة والترجمة، ومن يصدّق أنّ ساراماغو لم يُعرف في العالم بشكل واسع إلّا في الستين من عمره، وهذا حاله وحال الكثير من الأدباء، وفي هذا عزاء لكثير من النّاس. وقد تبادر إلى بيتٌ شعري من قصيدة كلها رثاء للنفس، كتبها رجلٌ في أواخر عمره بعد أن أقبلت عليه الدنيا في آخر حياته، يقول: (ما كنتُ أرجوه إذ كنت ابن عشرينا..ملكته بعد أن جاوزت سبعينا. قالوا أنينك طول الليل يقلقنا..فما الذي تشتكي، قلت الثمانينا).

لساراماغو إهداءات كثيرة في كتبه، فحواها كلها شخصٌ واحد، هي بيلار، زوجة ساراماغو والمترجمة لكتبه إلى الإسبانية. وقد ساهمت هذه العلاقة في توهج الكتابة لدى خوسيه، لنجد تلك الأعمال التي ناضل فيها ضد العالم والحكومات، وسحق الطبقات الفقيرة، والطبقية في المجتمعات، خصوصا مجتمعه. ورواية كرواية العمى التي يُذكر أنّ الفكرة واتته وهو يتناول وجبة الغداء، ذلك العمل الذي يذكر فيه عناصره المهمة، ألا وهي التشاؤم والاكتئاب التي تتماشى مع رواية فحواها مدينة لا اسم لها يداهمها الوباء ليتغير بعد ذلك حال النّاس وأخلاقياتهم. رواية رمزية تبدأ بفقدان بصر رجل عند إشارة المرور. لم يكونوا عميانا، كان هنالك عمى أبيض ينتظرون متى يخفت.

الفيلم كان نافذة لمعرفة خوسيه أكثر، والمترجمة بيلار التي ما زالت حية لليوم. لطالما طوّع ساراماغو الخيال ليصبح شيئا واقعيا يلائم ما يحدث من قضايا في الحياة كان شاهدًا عليها مثلما نفعل نحن. عندما تسلّم جائزة نوبل، تمّ شكره على أعماله وعلى الرموز والأمثال الغارقة في الخيال مع المفارقات الإنسانية. وروايته “مسيرة الفيل” دليلٌ دامغ على ذلك، إذ تقول الرواية أنّ ملك البرتغال أهدى لصهره أرشيدوق في النمسا فيلًا، ليروي الفيل مسيرته من لشبونة إلى فيينا، وهي لسيت مسيرة الفيل، بل مسيرة قارة أوروبا، وهذه جريئة من أفكار ورمزية خوسيه ساراماغو. وغالب أعماله لا تتوانى عن إظهار الطبقة الفقيرة المدقعة؛ وقد يكون ذلك بسبب شيوعيته التي لم يخفيها عن الجميع.

لا لذّة كلذة السعي. لولاها، لم يكن هناك رصيد من الذكريات.