ياسمين غُبارة
ياسمين غُبارة

د

رَحَلت الخالة

وكان لي خالةٌ جميلة القلب، حُلوة المعشر، صادقة المحيا، عظيمة الفقد، لم أختبر هذا الشعور من قبل، أن يرحل عن دنياك شخص له أثر الماء فى الشجر، لم أختبر شعور عدم القدرة على التواجد فى أماكن الأثر…. بيتها، شارعها، غرفتها، صورة زفافها المعلقة على الحائط، أشيائها المرتبة بعناية فى كل درج،  كيف لى أن أنسى ضحكتها ونبرة صوتها ؟!

خالتى لم تكن ملاكًا، كان لها طبعٌ وشخصية، كانت  تغضب وتحزن ويصيبها الضيق من أفعال البشر، كانت مُحافِظة، تقليدية، موظفة، تُدبِّر “القرش” ولا تُسرف، ولكنها كانت مسرفةً فى العطاء، محبةً للخير، صادقةً فى كل ما تفعل وتقول، وإذا أدركَت خطأً منها غير مقصود تداركته باللطف والحنان والاعتذار أحيانًا   لمن تعتقد أنها  قد تكون تسببت في ضيقه ، تتجاهل أخطاء الآخرين  وتحافظ على أواصر العائلة، تستوعب،بحب وعقيدة وإيمان صادق بأنه لا يصح إلا الصحيح، كل الخلافات والاختلافات وتضعها جانبًا فى لحظة لا تنتصر فيها لنفسها، تدعوالله كثيرًا  وتدخر فى حصَّالة عمرها أعمالَ الخير على نفس طريقة التدبير و”القرش الأبيض ينفعك فى اليوم الاسود”. هي خلطةً بشرية  واقعية تحاول أن تكون أفضل فى كل يوم؛ فتُنتِج فى خِضمّ محاولاتها مخبوزات وأصناف من الطعام ،ابتساماتٍ وتجمعاتٍ عائليةً، واتصالاتٍ  وديةً، واستقبالًا حانيًا، ومتابعةً واهتمامًا بأحوال الأهل والأحباب وكأنها خُلِقت من عطاء.

 حياتها  ليست بحكاية وردية، مرت  بمراحل كثيرةٍ واختبارات قوية فى الحياة حالها حال كل البشر، ولكنى تعلمت منها قوة اتخاذ القرار وتحمل تبعاته، مراجعة النفس، عدم الكِبر ومحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه. تعلمت من خالتى القوة فى الحق والأصول، تعلمت منها معنى القسوة الحنونة والحزم الإيجابي، وأنَّ الإنسان الصادق الحقيقي المُحب للخير بعيوبه وفوضاه الداخلية أفضل بكثير من الإنسان المُنمَّق الدبلوماسي الذى لا يعبأ إلا بنفسه.

بحثتُ كثيرًا بعد وفاة خالتى عن تلك الروح الصادقة المندفعة بالحب والعطاء، عن ذلك البريق اللامع والأمل الذى تعطيه لى بابتسامتها رغم كل ما أعلم أنها مرت به وما لا أعلم عنه شيئًا؛ ولكنى لم أجد، وأدركت فعلًا أن الله لم يخلق شخصًا مثل الآخر، وأن الروح كبصمة الإصبع لن تجد لها مثيلًا، قد نجد شبيهًا فى الأثر الذى يتركه أوالدورالمنوط به، ولكنَّ الروحَ سرٌ خاصٌ وروح خالتى كانت متألقةً صادقةً تُعِد العتاد للحاضر والمستقبل الذى أدركته و قالت لى يومًا: ” يا ريت الواحد كان يعرف من زمان  إنه اتخلق فى الدنيا عشان له دور يعمله ويمشى “، وفى كل مرة آتى لزيارة الأهل؛ تصرُّ على أن أَمرَّ عليها قبل سفرى ليهبط “السَبَت” من شرفتها حاملًا كيسين من القُرَص الطرية الهشة واحدًا بالعجوة والآخر سادة ، تعطيها لنا كمن ينقل ميراث الحب من جيل إلى جيل، نفحات تفرح بها أسرتي الصغيرة أكثر مما يفرحون بأنواع الحلوى المختلفة، نعود من السفر ونفتح حقائبنا لتكون القرصُ هى أول طعامنا، لذيذة الطعم، حنونة الأثر، لها سر يسرى بين  خلاياها. أتأمل كيس القرص الآن وأستعجب من كل شىء مادي نراه ولا نشعر به و كل شىء غير مادي يسيطر و يهيمن ويجعل للجماد روحًا وأثرًا. قُرَص خالتي كانت كائناتٍ صغيرة ودودة تغذّينا حبًا والآن أصبحت فقط قُرصًا   .