ياسمين غُبارة
ياسمين غُبارة

د

ذلك الحب الذي ….. “شجرة الكافور “

علاقة الابنة بأبيها لها تأثير عميق فى حياتها، وعندما يحدث الانفصال بين الأم والأب؛ تواجَه علاقة الأب بابنته تهديدًا حقيقيًا .. تهديد، لم يتعامل معه الدكتور مصطفى محمود على أنه خطر أو قَدَر أو أحد الأضرار الجانبية لانسحابه من أرض المعركة، فهو لم يقفز ويترك ابنته وحيدة، وإنما أخذها فى هبوطٍ تدريجي بالمظلة الهوائية ليصل بها إلى بر الأمان .

أمل مصطفى محمود ، لم أجد كثيرًا من ملامح وروح العلاقة بين هذين الاسمين فى مذكرات دكتور مصطفى محمود، ولكني وجدت كل شىء فى مجموعة من المقالات بعنوان: “أبي“، كتبتها ابنته أمل، ونشرتها بعد وفاته فى مجلة ” صباح الخير “.
هل أسماها (أمل) لأنه أراد أن يرى فيها أملًا ونورًا يحتمى به من كل ما قد يصطدم به فى هذه الدنيا؟!
نستشعر من تلك المقالات أنه زرع فيها كل ما يجعله يبتسم كلما رآها، فأمل هى مثال حي لكلمة ” أم أبيها ” التى لقبت بها السيدة فاطمة -رضى الله عنها- ، حيث عبر مصطفى محمود عن أنه شعر بمشاعر الأمومة ثلاث مرات فى حياته مرة مع والدته، ثم مع أخته الكبيرة (زكية)، ثم مع ابنته (أمل) التى كان يسكن معها فى نفس البناية، بعد أن تزوجت وأصبح لها عائلة صغيرة، وقال أنها كانت تعتني به دائمًا، و عندما كان يفكر فى أنه يحتاج إليها فى شىء؛ يجدها أمامه وكأنها تشعر به.
وعبّرت أمل عن طبيعة تلك العلاقة عنما كتبت عنه قائلةً: “إنه حبيبي وابنى المُدلل “، ولكن إذا عدنا للوراء أكثر، فسنجد أن أمل كانت أيضًا ابنة وحبيبة وقرة عين أبيها، فمصطفى محمود رغم كيانه المختلف، وفكره المتَّقد، وعقله النابض، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يستوعب ابنته ويستمتع بالنقاش معها فى كل ما يشغل ذهنها، فكانت تحاوره وتجادله ويقابل كل عنفوانها بابتسامته الحانية، ويترك لها الاحساس بالانتصار فى النقاش وينسحب بجملة: ” لكل قاعدة استثناء ” .

مُزاح الأب مع ابنته هو أكثر ما يُنبت بداخلها براحًا وأمانًا وطيفًا جميلًا من الذكريات، ومصطفى محمود كان يمزح مع أبنائه دائمًا لدرجة أن أمل تقول أنه كان لديه ” قاموس قفشات خاص به “، و إذا كانت الدراسات تقول أن انفصال الأب عن الأم يجعل الابنة عُرضة للاكتئاب؛ فإن مصطفى محمود تحدى ذلك بمرحه ومزاحه مع ابنته، و بسلاح آخر بسيط جدًا، وهو أنه فقط ظل موجودًا بشكل أو بآخر فى حياتها يبتسم ويستمع و يأخذها إلى عالمه، يصطحبها إلى معرض الكتاب كل عام، فتراه وهو متحمس ومبتهج لوجوده وسط كل هذه الكتب، وكانت هذه اللحظات هي ما جعلتها تقترب منه أكثر، وتدرك أن الكتاب هو صديقه المفضل .

مصطفى محمود رغم كونه مفكرًا وفيلسوفًا وعالمًا؛ إلا أنه لم يكن أبًا غامضًا، بل كان حانيًا رومانسيًّا طفوليًا فى أبوته، وكانت أمل هى الحبيبة والأم والابنة والأمل.
وعندما حاولت أمل أن توثق ذكرى خاصة متفردة بينها وبين أبيها، ذكرت (شجرة الكافور)، تلك الشجرة الكبيرة على كورنيش العجوزة حيث كانت نزهتها المفضلة مع أبيها، يجلسون تحت شجرة الكافور تظللهم، يُحضر لها الشوكولاتة التى تفضلها؛ فتبتسم وكأنها أميرة اللحظة، يقطف لها ورقة من الشجرة تشقها أمل نصفين فتفوح منها رائحة الكافور وتمتزج بطعم الشوكولاتة و بملامح أبيها الحانية؛ لتتشكل ذكرى محفورة فى وجدانها للأبد …

وللحُب بقية ……