غادة العمودي
غادة العمودي

د

خيال الإسمنت

قرأت مرة في كتاب من كتب الدراسات الأدبية المترجمة؛ أن مسابقة أدبية للشعر والنثر عُقدت في الولايات المتحدة الأمريكية في الخمسينيات من القرن الماضي. وكان من عادة المسابقة أن يقدم كل عضو في لجنة التحكيم محاضرة حول ما يرآه تعقيبا على مشاركات الطلاب. فعلّق المتحدث الأول: بأنه قد تفاجأ بأن كل المشاركات كانت مغرقة في الذاتية، تتحدث عن القلق والشك الفردي، وهذا يتنافى مع كون الأدب رسالة ينتفع بها الآخرون من جهة، ثم مع الحرج الذي تعيشه الحضارة الغربية بين كونها قوة مسيطرة ولكنها ضعيفة فكريا وأدبيا من جهة مقابلة!

أدخلتني ملاحظة الأستاذ الجامعي في مراودات قديمة – امتدت منذ دراستي الأدبية في الجامعة – وقد انتهيت منها، يأسا، إلى أنه لن يستطيع أن يكتب شيئا من الشعر والنثر ما لن يتاح له أن يعيش يوما بين الماء والخضرة والوجه الحسن!

في مستهل عصر النهضة العربية المعاصرة، وعندما كانت معارك الشعر ، والأدب عامة، تخاض على امتداد مساحة الإبداع العربي الشاب، كانت تسيطر أصوات شعرية محددة أتيح لها بحكم جمالية موطنها أن تملأ أشعارها بوصف الشجر والنهر والثلج، ثم هناك من أغرق أكثر في استحضار ميراث قديم من حضارات الفينيق وبابل وسبأ، مقلّدا في ذلك اتجاها ظهر في الشعر الغربي حول استحضار رموز الآلهة اليونانية كالإلياذة والإنيادة، وسائر موروثات الشعر القديم.

لكن في الجانب الآخر، حُرمت أصوات سكنت الصحراء، وابتلعت الجفاف، وجاورت بحرا ليس فيه سوى الغرق؛ من أن تعلو أصواتها؛ لأنها مظهرها الجغرافي غير جذاب! فكان أن بدأ هؤلاء المحرومون يقلدون النوتة الشعرية المسيطرة، فلا هم بقوا في جذورهم، ولا هم صاروا أهل النبعة و البوستة!

إن السؤال الذي أرقني على مدى سنوات من إقبال الكتابة وإدبارها؛ هو: هل تراني – أنا – وقد عشت محاطة بالإسمنت؛ بقادرة على كتابة عالمِ ما خارج الإسمنت؟! إننا نتنفس الإسمنت صباح مساء، غباره يسكن صدرونا بالحساسية، ثم يتناثر ليشكل رمدا دائما في أعيننا المحمرة، وحتى عندما كنت أعود من المدرسة سيرا إلى بيتي ، كنت بالكاد يسمح لي أن أدخل البيت، قبل أن أنفض كيسا من أتربة الإسمنت علقت بي من المقاولات تحت الإنشاء في الطريق.

وحتى فيما يتم الترويج له اليوم من الطباعة ثلاثية الأبعاد من أنها ستكون قادرة على بناء المباني الشاهقة، فإن ما سيحدث أن سيتم التخلي عن البياض الوحيد، أي الإنسان العامل، في حين سيبقى الرمادي المشوه ، أي الأسمنت حاضرا بكلّه في الذكاء الاصطناعي!

ولأن من حقي، مساواة بكل إنسان حالم: أن أكتب، وأكتب، وأكتب، فقد راودتني فكرة أن أقلب وجه المرآة! إذ عوض أن أكتب عن انطباع العالم الخارجي على مزاجي وقلبي، شأن المستقِر من فكرة الكتابة الأدبية، فإني سأنزاح إلى عالمي الداخلي العميق جدا، والمجرد من كل شيئية إلا “أنا”، ومن هناك سأنطلق في الكتابة! ليصبح أبسط شعور يتولد في وجداني رواية قائمة بصراعاتها، وكل خاطر هو محاورة أفلاطونية مدونة بذكاء، وكل تغيير -صغر أم كبر- يداهم نضجي؛ سأعتبره ثورة في عوالم الإبداع جديرة بأن تكون مادة خصبة لأدب غير مكرر.

آمنت حينها أن عالمنا الداخلي استبطناني بحت، وأنه بصمة تميز كل واحد منا، شأن بصمة الأصبع والعين وكل فريدة في فسيولوجيتنا، ثم انطلقت! انطلقت وكتبت في كل معنى لمسته فيني أو بي، فوجدت أن عالمي ينفتح تلقائيا على مديات لم تطرق من قبل. إذ تخلصت من صوت الأشياء وعكفت على صوت قدَري، وحينها تبدلت المعطيات؛ معطيات “أنا” وَ “العالم/ الآخر/ الكتابة”.

إن الأدب بحاجة إلى “مادة/ محتوى” تشكل سطوره وكلماته، واستقاء هذه المادة/ المحتوى هو اختصاص الأديب/ الكاتب، وليس من أحقية لبيئة أن تفرض ذائقتها على مسار الشعر والنثر، والأدب بكل شكل: فلا كتابة إلا ما تكتب، ولا إنشاد إلا لما تطرب له!

وسواء أظهرت مذاهب أدبية تالية في الغرب، كالرومانتيكية، والكلاسيكية، والوجودية، والعبثية، ونحو ذلك مما تصارعت وتسامرت حول عوالم الأديب الداخلية والخارجية، غير أن ا”لأصل” هو المتفرد في السياق، وهذا الأصل هو ما يكتبه الأديب/ الكاتب من محتوى أصيل، يشكل إضافة لذات الأديب أولا، ثم إضافة لعالم الأدب الذي ينبغي أن لا يُغلق بحال، حتى لو أكدت الفيزياء أن الكون مغلق على نفسه وكل شيء يتكرر ولكن بأشكال مغايرة.

إن جهدي في أن أبني عالمي داخل جدارن الإسمنت، كان بهدف واحد: أن أعيش الحياة! تلك الحياة التي قيل لنا أنها جميلة، وملونة، وموفورة المعجزات.

(ونحن اليوم ما لم نستولد الحيلة لنجعل قلوبنا تنبض .. تتسع .. تصرخ .. تمارس وجودها … فلن نستطيع أن نكتب سطرا من أدب ،ولا أن نشتق حرفا من فكرة .إن القلب هو سر أسرار الكتابة ، وهو بكامله ختمها الذي يوضع على قبرها فيما لو توقف عن أن يشعر بنفسه.. وبما يكتب) اقتباس من تدوينة قديمة بعنوان “الفارق بين الكون والإسمنت”.


الصورة البارزة Photo by rishi on Unsplash