زينب بروحو
زينب بروحو

د

خدعوك فقالوا -الجزء الأول- قصّة قصيرة

إن الانسان كائن بسيط جدا لأبعد الحدود…يظل يجرى وراء الحقيقة…وفي الحظة التي يعتقد فعلا أنه قد أدرك الحقيقة كاملة…. يكتشف أن الحقيقة الوحيدة في الحياة…و التي يرفض أن يدركها أي إنسان…أن الحياة مجموعة من الأوهام… كل حقيقة فيها هي ليست إلا سرابا…تماما كمن يستيقظ من حلم وسط حلم.

أراها رضيعة صغيرة…تلقاها والداها بالتكبير و التهليل…

أرضعتها أمها مبادئ الفتاة المسلمة المتزنة…أولها الايمان و العفة…و لقنها والدها مبادئ الانسان المسلم السوي… أولها الاجتهاد و الصدق…

أراها مراهقة…عفوا…فهي لم تكن تؤمن بمفهوم المراهقة… كانت تضحك في صمت من حركات الفتيان و الفتيات في سنها باسم المراهقة…

لقد قالت عنك ماجدة أنك معقدة

هكذا أسرّت لها إحدى زميلاتها في ذلك اليوم…

ابتسمت دون استغراب أو انفعال.

كانت مجدّة مجتهدة في دراستها… تحلم بأن تكون مهندسة بارعة… محبوبة عند جميع زملائها…تضحك و تلعب معهم و تساعدهم… فكانت تحيرهم… هي ليست بالمغرورة و لا المنزوية و لكنها كانت لا تؤمن بقصص الحب و الغراميات… و لا تتفرج على المسلسلات الرومانسية و أفلام الخلاعة.

هل حقا أخبرت الجميع أنني معقدة يا ماجدة؟سألت زميلتها ذات مرة.

آه..لا …لم….

تبتسم لها …قولي فقط… أنا أريد أن أفهم فقط…أعدك أن لا أخاصمك…”

نعم …قلتها…فأنت لا تصاحبين الذكور مع أنك تتحدثين إليهم… و قد صرخت في وجه ”أيمن ” حين أخبرك أنه يحبك و يريدك صديقة له….ألا تشعرين بحاجة لشخص في حياتك؟؟؟

ألهذا تقولين أني معقدة؟؟ هل عدم مصاحبة الذكور و عدم الاحتياج لمن يدغدغ مشاعرنا هي عقدة؟؟ ابتسمتكانت تملك أجوبة كثيرة…لكنها عانقت ماجدة ثم استدارت قائلة بفرح….إن كان الامر كذلك فلا بأس…أحب أن أكون معقدة..أخبريهم أني كذلك“…

هكذا بنت “مريم” حياتها على مبادئ لا تحيد عنها مهما حصل… فهي لا تغش في القسم باسم التعاون…و لا تستحيي من أن تقول” عفوا هذا مبدئي”… و لا تبني علاقات صداقة مع الذكور…و لا تقربها أصلا…لا على أرض الواقع و لا على محادثات النت …لا علانية و لا سرا… كانت مسألة مبدأ.

كانت بذلك تحس انها حرّة حين اختارت الالتزام بمبائها التي بنتها على أسس شرعية.. بعيدا عما سيقوله الاخرون و ما سينعتونها به…فكانت أخلاقها كافية لترد على اتهامات البعض و كانت تنعم باحترام الجميع لها…

مرت السنوات تطوي السنوات …

رأيتها شابة…. صعدت مدارج التفوق… و ولجت الهندسة…و تخرجت مهندسة مميزة…

قبلتها إحدى شركات صناعة الطائرات في بلادها… و كانت تحس أن أحلامها تتحقق خطوة لو الخطوة بتوفيق من الله و فضله.

لكنها اليوم…تفقد فجأة تلك الشعلة التى كانت موقدة في عينيها دائما…

أراها شاردة …. تعلوها علامات الحزن و الانكسار….

ما بك يا مريم؟سألتها مرة،

هل أخطأت؟… هل أخطأت حين أردت أن أكون إنسانة قوية بالعلم؟ مثقفة؟؟ و باحثة تضيف للعالم شيئا؟ و للأمة الاسلامية أشياء؟؟

لم تقولين ذلك يا مريم؟ ما بك؟

ابتسمت في سخرية ظاهرة هذه المرة لم أعهدها عليها من قبل…. و غادرت المكتب.

مرت الأيام و مريم لم تعد تعمل بشغف كبير… تأتي كل يوم للمكتب فقط لتقوم بواجبها… تباطأ عملها على مشروع تطوير محرك الطائرة الذي كانت تشتغل عليه… فتأكد لي أن هناك خطب ما…

مريم…ألاحظ من وقت شرودك و تراجع شغفك لتحقيق حلمك… و مشروعك

ربما لأنني أخطأت الطريق من البداية… أو… لست أدري…أنا مشوشة التفكير… لم أعد أعلم…هل أستمر؟ هل أنا على الطريق الصحيح… أو ربما أتراجع و أترك كل شيء.

اغرورقت عيناها بالدموع… و غادرت المكان… فمريم لم تكن من الذين يحبون أن يشعر الاخرون بضعفهم..و لا ممن يحبون أن يحسوا بعطف الاخرين عليهم… و لا ممن يحبون أن يستميلوا شخصا إليهم بقصصهم و معاناتهم…

لكن….لابد من التدخل و معرفة ما يشغل تفكير مريم…

لم يسعفني الوقت كي أجد الطريقة المناسبة لفهم ما يجري…. قدمت مريم استقالتها من العمل من دون سابق إنذار… و لأول مرة…. تركت على مكتبي رسالة.

” السلام عليكم أستاذ أحمد…

قدمت استقالتي…. ربما سأشعر بالراحة أخيرا… مع أن العمل و المشروع و الافكار الجديدة فيه لا تتوقف من السيطرة على تفكيري…سأحرص على كتابة المشروع و إنهائه في بيتي و سأرسله إليك لتقدمه للشركة…و كلما خطرت ببالي فكرة جديدة سأحرص على إرسالها إليك… لا أريد اسما مرموقا و لا أريد مالا…فوالداي بخير و سأكون بجانبهما و هما لا يحتاجان لمالي…

ربما تتساءل عن السبب…

لقد اكتشفت أنني كنت مخطئة منذ البداية في جعل طموحي كبيرا و أهدافي عظيمة… ظننت أنني بذلك أخدم الاسلام و المسلمين … لكن … ربما لم أنتبه أنني “امرأة”… و واجبها في بيتها –أعلم أنني لم أتزوج بعد و ربما عملي و طموحي هما السبب.

ربما كنت مخطئة في كوني متفوقة… أحببت العلم و التعلم حد العشق..و حين كان الجميع يعشق البشر… كنت أعشق الكتب… أخطأت أنني رفعت راية التحدي… تحدي الفشل الذي كان يصيبني أحيانا… و تحدي نفسي في أن أكون أفضل من نفسي دائما…

ربما حان الوقت كي أعود للأصل… في البيت… و أتزوج من دون رفض بسبب الدراسة أو مقر العمل…أن أتبع زوجي المستقبلي حيثما حل و ارتحل…و أن أٌقوم بدوري كأنثى و كأم… لأنني في الأخير “أنا امرأة”.

لا أريد أن أعود مجددا لاجتماعات الشركة… إطراء فلان علي بأني ذكية… و نظرة فلان فيّ بأني جميلة…

أظن أنني وجدت طريقي للراحة النفسية أخيرا…

كان قرارا صعبا…لكنني اتخذته قناعة مني بأني سأعود لطبيعتي .

تجد مرفقا… مسودة المشروع الذي أعمل عليه لتطوير المحرك… أتمنى أن تكملها و تعمل على إخراج المشروع للواقع.

و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته”

أنهيت قراءة الرسالة… لا أذكر هل كنت جالسا و وقفت…أم كنت واقفا فجلست…أم كنت في مكتبي و خرجت…أم كنت خارج المكتب و دخلت…

لم يكن خبر استقالة “مريم” وحده ما آلمني… لكن سببه كان أكثر ألما و غموضا…

مريم؟؟؟ الطموحة؟؟ صاحبة الأفكار؟ و صاحبة النصيحة؟؟؟

“مريم”…لم تكن مجرد مهندسة في الشركة… بل كانت جهازا نقيس به حجم الخير في العالم… كانت تبعث في نفوسنا أملا بأن هناك في العالم أناسا صالحين مصلحين…

استقالة مريم لم تكن خسارة للشركة…. بل كانت خسارة للأفراد… و خسارة للأمة.

ثم ما هذا الذي تتحدث عنه “مريم” اليوم؟ هل فعلا أحست مريم أنها أخطأت الطريق؟ و أنها باستقالتها و ابتعادها عن طموحها تصحح الخطأ؟

ماذا تعني بأنها ستعود لطبيعتها؟؟؟ هل كانت في غير طبيعتها و هي بحجابها المحتشم و كلامها الموزون و ابتسامتها المتواضعة…. ؟؟؟

ما الذي حدث يا “مريم” ماذا تقصديين يا ترى؟؟؟؟

يتبع…..

Z.Brh