سارة الشافعي
سارة الشافعي

د

جسر الجواسيس

كنت قد شاهدت فيلم “جسر الجواسيس” وقت عرضه وتأثرت كثيراً بقصة الفيلم المقتبسة عن أحداث حقيقية. تأثرت بشخصية “جيمس دونفان” المدافع عن الحق والقانون، الذي خاطر بكل شيء لينفذ فكرة قد تقضي عليه تماماً لو فشل في تنفيذها.

“جيمس دونفان” محامي الجاسوس الروسي الذي جسد شخصيته بالفيلم (توم هانكس). يدافع عن الجاسوس لأنه يرى أن القانون أعطاه الحق بالحصول على محام مهما كانت التهمة، والأكثر من هذا يطالب بتخفيف عقوبة الإعدام مما جعله عدو الشعب الأول بعد الجاسوس، أو ربما يسبقه مكانة؛ فكيف لمواطن أن يدافع عن خائن لوطنه بهذا الحماس؟ وما هو الدافع وراء كل هذا؟

ينتهي الفيلم نهاية سعيدة ل”دونفان” حيث تنجح خطته ويقوم بعملية إبدال للجاسوس بعدد من الأسرى لدى الجانب السوفيتي، ليهدأ الجميع بعدما فهموا أخيراً ما كان يدور بعقله، ومع الاستفادة بعودة مواطنين أحياء مقابل هذا الخائن الذي فقد كل فرصه هنا وفي وطنه بعدما كشف أمره وبعد تشكك الجانب الآخر بإدلائه بالكثير من المعلومات.

تذكرت هذا الفيلم تحديداً بعدما سمعت خبر ترافع محام شهير عن قاتل “نيرة أشرف”، لما تقدم بطلب طعن على قرار إعدام القاتل أملاَ في تخفيف العقوبة.

راح المحامي الشهير يثير الجدل كعادته من أجل تصدر المشهد كما اعتاد، وعلى عكس “جيمس دونفان” الذي كان يفكر في الاستفادة من الموقف قدر المستطاع إلى جانب تنفيذ نص القانون وتطبيق روح العدالة للجميع، قرر الجميع لمعرفتهم السابقة بالمحامي ولمعرفتهم بالنصوص التي يريد الاحتكام إليها، أنه لا يبحث عن عدل أو تعديل لنص يحتاج لتعديل، ولا يبحث عن روح القانون أو فرصة آخرى لشخص يستحقها،قرر الجميع أنه يبحث فقط عن طريقة ليسطع بها تحت الأضواء من جديد.

بين الحين والآخر يظهر أحدهم ليدافع عن موقف ما أو قضية لا نراها من نفس منظورهم، تماماً كما فعل “جيمس دونفان” وقضى الكثير من الوقت محاولاً تحقيق هدفه. لم يتفهم المحيطين به ما كان يجول بعقله إلا بعدما تمت عملية التبادل، وبعدما اتضحت فكرته.  

بالتأكيد حولنا العديد من أمثال “جيمس” الباحثين عن العدالة والحق والمُثل التي لم يعد أحد يحيا وفقاً لها. وهناك أمثال المحامي الشهير ممن يقفون ضد التيار بحثاً عن الشهرة والدعايا الكاذبة ومطاردة الأضواء التي لا تكاد تخفت حتى يظهر لنا بأحدى مواضيعه المثيرة للجدل.

للتنويه قام هذا المحامي من قبل بالترافع عن جاسوس وقام بتخفيف الحكم عليه بدلاً من العقوبة القصوى، ليتم استبداله فيما بعد بعدد من الأسرى بعد عدة مباحثات بين الحكومات لم يكن هذا المحامي الكبير طرف فيها، ولم يكن له أي يد في الأمر.

يمر الوقت ويجعلنا ندرك الكثير من الأشياء التي لم ندركها في حينها، ويجعلنا نرى الأشخاص على حقيقتهم. ومع مرور الوقت مع صاحبنا رأينا حقيقته أكثر من مرة، ورأينا كيف يعمل وكيف يفكروما يرمي إليه في كل مرة.

تذكرت الفيلم والحقيقة السابقة، وحزنت أشد الحزن على ما وصلنا إليه، فبالمقارنة مع كل ما سبق لم أشعر بخطورة وضرر أفعاله مثلما شعرت بها اليوم.

فقد الموت رهبته وحرمته منذ زمن بعيد بسبب اعتيادنا على مثل تلك الحوادث وتكرارها، وظهور أمثال هذا الشخص ليستغل الوضع ليسطع نجمه على حساب دم الأبرياء متلاعباً بثغرات القوانين التي كان بإمكانه استغلالها لتحسين الوضع وجعل الحياة أكثر قابلية للعيش، لكنها اختار الجانب الآخر كما فعل القاتل ،وفعل من شجعه وقام بالتعاطف معه ولو بكلمه في الترسيخ لمثل تلك الأفعال.

ها نحن بنفس العام نشهد الحالة الثالثة، ونشهد معها الكثير من التعاطف والهراء الذي يكتب عن كل حادث، وعن وصف ما حدث بأنه قتل باسم الحب وعن المصير الأسود الذي ينتظره ويجب عيلنا جميعاً العمل على تغييره وتحسينه، وكأن من قتلوا لم يكونوا بشر ليوم واحد! لم يشعر بهم أحد أو يحزن عليهم أحد أو يفتقدهم أحد!

يوماً بعد يوم نصبح مجرد أرقام تصنف تبعاً للأهواء العامة، وتعاطف رجل الشارع. يوماً بعد يوم نفقد انسانيتنا ونفقد الاحساس مع تكرار تلك الحوادث البشعة فتصبح جزء من الروتين الذي نتعامل معه يومياً بمنتهى الاعتياد.

شخصياً لا أرى الجانب المشرق في الطعن على الحكم، وأمل أن لا أراه ما حييت. كل ما أتمنى أن أراه هو تحقيق العدل وترجيح كافة نيرة وأمثالها لدى رجل الشارع ليس لأي سبب سوى لأنها هي الضحية.

لا أبحث عن شفقة أو مخالفة قانونية وإنما أبحث عن الأمان الذي لم يعد متوافر لعدة أسباب أهمها الثغرات القانونية التي أصبحت منفذ لكل من يبحث عن مهرب لفعلته التي لم يعد يقوى على تحمل مسئوليتها. أبحث عن أناس تشعر بمن حولهم وبحقهم في الحياة كما تشعر بحق المعتدي والجاني، وتطالب بحياة أفضل له بالرغم من كل ما فعله.

لا أسعى للمثالية ولكن أسعى لحياة تعاش بأقل المقاييس الإنسانية التي لم تعد متوافرة لأسباب جلية لا يمكنني تعديلها وحدي بدون مشاركة جميع الأطراف.