بندر الحربي
بندر الحربي

د

انتبه! هذه عبارة غير مكتملة

قبل فترة قصيرة، رمى عابرٌ في صفحتي بتويتر، عبارة (يا منسلخُ!) ومضى.

نحن هنا أمام سلوك ولغة. أما السلوك فلم يفاجئني؛ فبحكم تخصصي أعرفه تماماً؛ هو ينتشر في الفضاءات المفتوحة، ولكنَّ اللغة هي التي استوقفتني. العبارة هنا ناقصة، وبصراحة بقي في نفسي شيءٌ منها (حتّى) أنني وددتُّ لو أنه أضاف إلى الوصفِ المُبهَم مقطعين آخرين: حرفَ الجرِّ، وكلمة (منسلخ عن جِلده، عن لغته …). ثمة جملة هنا لم تكتمل، فكرة لم تنضج، لم تنتهِ، حتى لو كانت سيئة! ولِمَ لا، فقدَرُ كل الأشياء الاكتمال، ألم تسمع بجملة “جريمة مكتملة الأركان”!

يدلُ الاكتمال بصفته مفهوماً على شجاعة، وتُشير النقطة في علامات الترقيم إلى حسم. إنَّ الاكتمال فكرةٌ متماهية مع طبيعة الحياة وحركتها، يتوقعُها الناسُ دائماً، بل ويتوقون إليها؛ لأنها – ببساطة – نقيض النقص، القِلة، الشُّح. تتصل هذه الكلمة بصفتها مصدراً بفعل اكتمل، وتقترب أكثر إلى الفعل وهو هنا بمعنى العمل. ومن الجانب النفسي، ترتبط هذه الكلمة ارتباطاً وثيقاً بمعنى الإنجاز، رغم وجود فرق بينه وبين الاكتمال؛ فالإنجاز يُقاس عادةً بعوامل خارجية، في حين يبقى الاكتمال إشباعاً داخليًا في المقام الأول. وبين الانتهاء والاكتمال خيطٌ رفيعٌ أيضاً، إذ تعني النهاية التوقف، أما الاكتمال فيوحي بثلاث معانٍ هي الاكتفاء، والإتمام، والإشباع.

من أكثر الأدوات البلاغية تأثيراً، أداة تسمى الثلاثية (tricolon)، وهي سلسلة من ثلاثِ كلماتٍ، أو جُمَل متوازية في البنية والطول و/ أوالإيقاع، يوظفها أشهرُ الخطباء في كلماتهم. عرفها العالم مع يوليس قيصر وعبارته الشهيرة ” أتيتُ.. رأيتُ.. انتصرتُ”. أما في العصر الحديث، فمن مستخدميها أوباما، فهو يقول في هذه العبارة مثلاً: “…عندما تشتد ظلمة الليل، وألَمُ الظلم يعصر قلوبنا، وتنأى عنا أفضل أمانينا، لنتذكر [مانديلا] والكلمات التي أمدّته بالراحة في زنزانته ذات الجدران الأربعة”.

لماذا هذه الأداة مؤثرة؟ لأنها تدلُ على الإتمام والاكتفاء والاكتمال، وكأنها جعلت الجملة دائرة مغلقة، لاتحتاج إلى مزيد توضيح. يقول روي بيتر كلارك مؤلف كتاب “أدوات الكتابة: 49 استراتجية ضرورية لكل كاتب” بترجمة سارة أوزترك: “توفر تعويذة الرقم ثلاثة، إحساساً بالكمال أكثر ممّا يوفره الرقم أربعة أو يزيد … استخدام كلمة واحدة من أجل القوة، وكلمتين للمقارنة والتقابل، وثلاث كلمات للتكامل والتمام والإحاطة…”.

ومن الطبيعي أنْ تحتوى اللغة العربية بسحرها الكلمات الثلاث، أو الأفكار الثلات ذات الإيقاع المتناغم، فعِلم البلاغة يقول لنا: كل ما خَطرَ ببال المتكلم من المعاني فله في التعبير عنه ثلاثُ طرق: الإيجاز، والمساواة، والإطناب. ومن أقوال الإمام عليٍّ، العميقة: “أحْي قلبك بالموعظة، ونوّره بالحكمة، وحذّره صولة الدَّهر”.

وللاكتمال أغراضٌ وطقوسٌ أيضاً في الفن، إذ ثمة عبارة عالمية من ثلاث مقاطع يقولها المخرج في المسرح: Strike the set “فكّ الأدوات” وتعني: العرض انتهى، المشروع اكتمل! وتعني أيضاً: مع السلامة للممثلين والأصدقاء الأعزاء الذين اشتركوا في هذه المهمة. وكذلك في الأفلام السينمائية، فقد وظَّفَت هذه الأفلام لعقودٍ من الزمن تلك الشارة السوداء المكتوب عليها “النهاية” أو”The End” لتنبيه المشاهدين أنَّ الفيلم قد انتهى؛ لتتوقف التوقعات وتهدأ المشاعر. ولطالما استخدم المؤلفون والكُتاب كلمة “انتهى” أيضاً في ختام المقالات والرسائل والخُطب المكتوبة والبيانات الصحفية، لذات الغرض الإعلاميّ اللغويّ النفسيّ. (النهاية)