ممدوح رزق
ممدوح رزق

د

النهاية المفسِّرة لمسرحية بيرانديللو المحيِّرة


ثمة انتقاد يرافق دائمًا مسرحية “لكل حقيقته” للكاتب الإيطالي لويجي بيرانديللو، ويتعلق تحديدًا بنهايتها التي توصف من قِبل البعض بأنها “فانتازيا” لا تتوافق مع قصة “واقعية”.

تحكي هذه المسرحية عن “بونزا” الذي انتقل لبلدة جديدة مع زوجته وحماته “فرولا” ليعمل في وظيفة حكومية .. رأى سكان هذه البلدة أن “بونزا” قد وضع حماته في شقة لتعيش وحدها، بينما سكن هو وزوجته في بناية بعيدة، وأنه يغلق على زوجته باب شقتهما بالمفتاح، ويمنع أي شخص من رؤيتها أو التحدث معها، في حين يتم التواصل بين الحماة والزوجة عن طريق خطابات متبادلة بواسطة “السَبَت” الذي تُنزله الزوجة بحبل من الدور الخامس ثم تجذبه إليها بعد ذلك.

تتصاعد وتيرة النميمة بين أهالي البلدة ويبدءون في التطفل على حياة هذه الأسرة لمعرفة ما يقف وراء أحوالهم الغريبة : الزوج الذي يسجن زوجته .. الزوجة التي لم يرها أحد .. الأم / الحماة التي لا يمكنها الصعود لشقة ابنتها، وتكتفي بالنظر إليها من أسفل، وكتابة الرسائل لها وتلقيها منها.

تهتم أسرة المستشار “أغازي” على نحو خاص بتصرفات هذه الأسرة، ويستقبلون في منزلهم بعض الجيران المتلهفين لمعرفة حقيقة هذه الأسرة الغريبة.

حينما تتم مواجهة “بونزا” بما يدور في أذهان الناس يخبرهم بأن حماته مجنونة، وقد فقدت عقلها بعد موت ابنتها “لينا”، وإنها تعتقد أن هذه الابنة ما زالت حية، وتظن أن زوجته الثانية “جوليا” هي ابنتها .. أخبرهم أيضًا بأنه يحب حماته ويعتني بها حيث لم يصبح لديها في الحياة أحدًا غيره.

لكن عند مواجهة الحماة “فرولا” تقول لهم إن زوج ابنتها هو المجنون، وإنه يعتقد بأن ابنتها قد ماتت، وبأنه تزوج امرأة أخرى، ولكن الحقيقة أن ابنتها مازالت حية، وهي التي تعيش الآن مع زوجها.

حينما يجبر رئيس العمل “بونزا” على إحضار زوجته إلى منزل المستشار “أغازي” تخبر الجميع بأنها ابنة السيدة “فرولا”، وأنها في الوقت نفسه الزوجة الثانية للسيد “بونزا.”

تنتهي المسرحية بشقيق “أماليا” زوجة “أغازي”، أو من يبدو أنه يجسد “برانديللو” نفسه في المسرحية؛ السيد  “لامبرتو لوديسي” وهو يضحك بسخرية قائلًا: “والآن أيها السادة ، من يقول الحقيقة؟. هل أنتم سعداء؟”.

إن إجابة “أنا لا شيء، أنا من تختارون أن تكونها” التي وصفت بها الزوجة نفسها ليست “فانتازيا” إلا بالنسبة إلى الذين يريدون إجابة واضحة ومباشرة مثل أولئك “الفضوليين الحمقى” كما صوّرهم “بيرانديللو” في مسرحيته، ولكنها إجابة في منتهى الواقعية لمن يريد “فهم” الإجابة وليس الحصول عليها بطريقة سهلة، فضلًا عن أن السيد “لامبرتو لوديسي” قد أوحى بهذه الإجابة بالفعل خلال أحداث المسرحية باستخدام بعض العبارات الدالة مثل:

“صدقوا ما يقوله لكما الاثنان”

“لا تصدقوه ولا تصدقوها”

“أنتم في مسيس الحاجة لهذه المستندات أو لأي مستند ينفي التهمة عنها أو عنه، ولكني لست بحاجة أبدًا إلى شيء منها؛ فالحقيقة لا توجد بين سطور المستندات ولا تؤكدها حروفها بل مكانها هو النفوس، نفوس الناس، وهذه النفوس وللأسف أسرار محجّبة لا أمل أبدًا في اكتشافها أو الوصول إلى سرها أو معرفة ما تنطوي عليه، لهذا لا يسعني إلا تصديق كل ما يقال”.

“لا يمكن لأحد أن يقول أيهما المجنون؛ لا لأن المستندات والوثائق ضاعت في حادث الزلزال أو التهمتها الحريق، أبدًا، بل لأنهم طمسوا هذه البراهين في نفوسهم وأرواحهم، عليكم أن تفهموا هذا، فقد تبادل خيالهم الخصب أسطورة ترتفع إلى قوة الحقيقة وروعتها، وقنع بها ثلاثتهم،  وارتضوا العيش في ظلالها .. هذه هي الحقيقة .. الحقيقة التي نسجها خيالهم قوية، ثابتة، لا يرقى إليها أي دليل، ولا يستطيع دحضها أي برهان؛ فهم يستنشقونها ويرونها ويلمسونها ويحسون بها تملأ نفوسهم”.

“لنفترض أولًا أن “فرولا” هي صادقة فعلي أي صورة تتراءى لـ “بونزا” هذه المرأة، إنها والحالة هذه تكون ابنة السيدة “فرولا” التي لا يرى فيها “بونزا” غير خيال زوجة ثانية، وإذا كان الحق مع “بونزا” فعندئذ “فرولا” لا تجد في زوجة “بونزا” الثانية غير شبح ابنتها المتوفاة، واختصارًا للموضوع نحن أمام شبحين؛ فعلينا أولًا أن نتحقق أن هذه المرأة التي لا تعدو أن تكون شبحًا بالنسبة إليهما من تكون بالنسبة إلى نفسها .. هذه هي المشكلة، والواقع أنها مشكلة تحتمل كثيرًا من الشك والريبة”.

إجابة الزوجة تعني ببساطة أنها امرأة فاقدة الذاكرة، لا تعرف هويتها، ماضيها، وأنها في الحقيقة ليست ابنة السيدة” فرولا”، وليست الزوجة الثانية للسيد “بونزا”، ولكنها قبلت وتعايشت مع كونها شخصيتين مختلفتين: “لينا” و”جوليا”، بحسب ما يعتبرها كل من الرجل والمرأة العجوز وفقًا للوهم المتسلط عليه وأصبح واقعًا محسومًا بالنسبة له.

تشير نهاية المسرحية إلى أنه كانت ثمة علاقة من نوع غير مألوف بين “فرولا” و”بونزا” سبقت مغادرتهما لبلدتهما التي دمرها الزلزال .. علاقة بين شخصين وحيدين تمامًا، تقوم على تخيّل مشترك بأن هذه العجوز لديها ابنة تمتلك سمات وصفات محددة “ماهرة في اللعب على البيانو مثلا”، وأن الرجل قد أحب الصورة المفترضة لهذه الشابة بهوس عارم .. تحوّل هذا التخيّل إلى تواطؤ عفوي بين الرجل والمرأة على تصديق ذلك الوهم، وبالتالي منحا هذه الشابة حياة كاملة انتهت بيقين متبادل بينهما بأن الرجل قد تزوج الابنة حقًا .. بعد حدوث الزلازل الذي حوّل البلدة إلى خراب كما تصف المسرحية، وتحت وطأة الخضوع القهري للوهم؛ اعتقد “بونزا” أنه قد فقد زوجته؛ حيث كان عشقه الجارف لها يبقيه في خوف دائم من ضياعها .. على جانب آخر لم تصدق “فرولا” أن ابنتها قد ماتت؛ إذ لم يكن لديها استعداد لخسارة الابنة الوحيدة التي ـ بعكس ما قرر الزوج ـ كانت نجاتها من الزلزال دليلًا على كونها ذات وجود فعلي .. ثم حدث اللقاء الذي انتهى بالزواج بين الرجل والمرأة التي أصابها فقدان الذاكرة نتيجة الزلزال، والذي محا كل دليل لحياتها السابقة .. اعتبر “بونزا” أن هذه المرأة هي زوجته الثانية لكونه متأكدًا من أنه كان لديه زوجة أولى هي ابنة السيدة “فرولا”، وأن هذه الزوجة قد ماتت أثناء الزلزال، وكان ذلك التمسك بكون هذه المرأة هي زوجته الثانية يوطد لديه اليقين بداهة بأن الزوجة الأولى كانت إنسانة حقيقية، ومن ثمّ فإن حبه الغامر لها قائم على أساس ملموس يضمن له البقاء حتى بعد الموت .. قرر “بونزا” أن يصطحب “زوجته الثانية” إلى بلدة أخرى، ليس نتيجة ما ألحقه الزلزال ببلدته، ولكن في المقام الأول لكي يقطع أي خيط محتمل يمكن أن يصل زوجته فاقدة الذاكرة بماضيها، وهذا ما كان يقف وراء إصراره على إخفائها كليًا عن الأنظار داخل بيت منعزل .. كان يخشى أن يتسبب ظهور أي أثر من هذا الماضي في حرمانه من “زوجته الثانية” وبالتالي يكابد الفقد مضاعفًا .. كان عليه أيضًا أن يصطحب معه “حماته” حبًا ووفاءً لها وإكرامًا لذكرى “زوجته الأولى” وأن يعتني بها كابن مخلص، وكان على هذه السيدة ـ التي تعتبر أن ابنتها ما زالت على قيد الحياة ـ أن ترضخ لحكم الرجل بألا تلتقي بزوجته، وأن تتواصل معها عبر مسافة كبيرة فاصلة لأن تلك هي الكيفية الوحيدة التي تجعلها بالقرب من “ابنتها”، وفي الوقت ذاته أجبرت على الدفاع عن “زوج ابنتها” أمام الناس لتحمي هذه “الابنة” مما قد ينالها من أذى قد يتعرض له زوجها، والذي قد يضطره إلى الرحيل بها إلى حيث لا يمكن لهذه العجوز أن تصل إليها .. كان “بونزا” يريد لهذا التباعد بين “فرولا” وزوجته أن يساهم في إذابة تصوّر العجوز بأن ابنتها ما زالت حية، وأن تذعن لفكرة موتها في الزلزال .. هكذا كان بديهيًا أن يبدو كل منهما مجنونًا في نظر الآخر، وأن يتأرجح الاتهام بالجنون بينهما في نظر الجميع.

إن الزوجة فاقدة الذاكرة بهذه الإجابة في نهاية المسرحية كانت تحمي كل من السيدة “فرولا” والسيد “بونزا” من ردود الأفعال العدائية التي يمكن أن تطارد أي منهما إذا ما انحازت لوهم الآخر .. كانت إجابة تبرهن العطف والشفقة داخلها تجاه العجوز والرجل انتظارًا لخلاص محتمل، فضلًا عن كونهما يمثلان الحياة التي لا تملك غيرها.

تكمن براعة بيرانديللو في إعطاء إجابة تمحو الفرق بين الواقع والفانتازيا، وتجعلهما شيئًا واحدًا، وفي نفس الوقت تجعله ملاءمًا للمعنى الذي أراده عن الحقيقة .. الحقيقة التي يُفترض بهذا الشكل أن تدفع كل شخص من الفضوليين إلى أن يعيد النظر إلى نفسه أولًا وإلى من يشاركونه حياته:

“إن لكل منهم مثل هذا الشبح ومع ذلك ألا تراهم يا عزيزي يركضون خلف الأشباح، يريدون اقتناصها، يا لغباوتهم، أيظنون أن في وسعهم القبض على الأشباح!”.

https://mamdouhrizk0.blogspot.com/