إنجي الطوخي
إنجي الطوخي

د

القاهرة مدينة النجوم.. كفى قتلاً لإنسانيتنا!


“مدينة النجوم …هل أنت مضاءة ولامعة من أجلي فقط؟…مدينة النجوم هناك الكثير الذى لا يمكنني أن أراه…من يعلم هل هذه بداية لشيء جديد…أم أنا فقط أتخيل الأمر!”، تبدو كلمات الأغنية الأمريكية “مدينة النجوم” من فيلم “لا لا لاند” الغنائى إخراج دميان تشازل،هي الأنسب لوصف حال من يزور القاهرة لأول مرة، ويرى الوهج الجذاب لها فى المعالم  التاريخية والسياحية التى تتناثر عبر أرجائها ، المقاهى و المطاعم ذات الروائح الشهية، والأماكن والأنشطة الفنية التى تنفث هواء الحياة فى الروح، وأخيرا الأنوار المتلألئة علي صفحة النيل الهادئة، لكن بعد ذلك لن يتوقف عن طرح الأسئلة إلي الأبد، وقد تدور كلها حول سؤال واحد  يخاف أن يصرح به “لماذا تقتلين إنسانيتنا كل يوم ؟!

 سؤال لن يتوقف عن التردد، كأنه نغمات أغنية حزينة، أو صوت منبه مزعج نساه صاحبه أوجرس إنذار بالخطر الوشيك، فتسعى إلى الهرب ..ولكن إلى أين؟

على اليسار واليمين تبدو المئات بل الآلاف من الكتل الإسمنتية التي لا تنتهى، بلون واحد رمادى وأحيانا أصفر باهت مزعج للعين بشكل فج، يتضاءل جنبه اللون الأخضر رويدا رويدا حتى يختفى، كأنها لوحة صاحبها انتهت “باليته” ألوانه قبل أن يضع لمسته الجمالية عليها.

والزائر أول مرة لن يلاحظ تلك التفاصيل الصغيرة الحزينة، لم ألاحظها أنا أيضا خلال رحلة لهاثي بين مدينتي الصغيرة وبين القاهرة لفترة تزيد على الـ10 سنوات،  فالافتتان بالمحبوب يجعلنا نتغاضى عن عيوبه، ولكن بعد الاستقرار فى العاصمة صارت تقفز فى عينى مباشرة كرماد حريق هائل يتطاير بلا توقف.


القاهرة

هل كنت أراها؟ أم كنت أتعمد تجاهلها؟ حتى لا أندهش من اختفاء البراح فى أرجاء القاهرة عاصمة المتناقضات.

 “مدينة النجوم” …هلا تتوقفين قليلا عن قتل أنسايتنا؟!

ليس سؤالا بل رجاء  متخفى، يطلقه أبناء القرى والمدن الصغيرة فى الأقاليم  وأحيانا واحات على الحدود جاءوا إلى القاهرة لملاحقة أحلامهم الكبيرة، على أمل أن تنتبه إليهم تلك السيدة الجميلة التي لطالما رأوها في وسائل الإعلام وسمعوا عنها  في الصحف والمجلات، وقرأوا  عنها فى الكتب، ولكن تبدو الحقيقة صادمة بشدة، فالحياة في العاصمة تبدو كأنها آلة لا روح فيها ولا مشاعر، هناك نظام اتفق عليه الجميع دون أن يتفقوا أن تكون حياتهم أشبه باللهاث اليومي يضيع فيه المعنى الحقيقي للحياة نفسها، أو حتى فكرة الاستمتاع بذلك المعنى إن وجد.


القاهرة

وكأنه فيلم سينمائي تظهر في بدايته  البطلة تلك السيدة الجميلة التي لطالما تمنى الجميع مجرد الاقتراب منها، تظلم الشاشة لثوان قليلة ثم تضئ مرة أخرى ولكن المفاجأة أن المخرج غّير البطلة، واستبدلها بصورة سيدة عجوز طاعنة في السن إلى الحد الذى تخشى معه رؤية وجهها حتى لا تصيبك ترهلاتها بالألم والحزن، وتلك السيدة لا تراك مطلقا أو تشعر بك وحتى إن استخدمت بوق لتنادى عليها !.


القاهرة

ماذا فعلنا لك حقا كى تُقتل إنسانيتنا بهذا الشكل؟!

يتحول الرجاء إلى سؤال حائر عن معنى الإنسانية،  فقد اختار البعض هجرة قريته ومدينته الصغيرة  المليئة بالبراح والراحة الحقيقية بحثا عن بريق العاصمة المتلألئ على صفحة نضجها وحكمتها، ولكن سرعان ما يدرك أنه كان يطارد سراب في زحام  الحياة القاتل للكثير من الصلات الإنسانية وأبسط المعاني الاجتماعية مثل التكافل والتضامن الذى لا يتم ممارستهم إلا ضمن الدوائر الرسمية بعد أن اختفت بين السكان العاديين.

التقهقر للخلف ورفع الراية البيضاء هو ما يفعله بعض سكان الأقاليم، حتى لو بدت سذاجة لمن حولهم، أو أحيانا جبنا ، فالمكسب هو حماية قلوبهم البيضاء من تلك العثة التى قد تلتهم خيوط الإنسانية داخلها، حتى يصبح مجرد قناع بلا روح يتحرك وسط ما تقرره له الظروف واللوائح والقوانين والساعات، ويرفضون العيش في العاصمة عن قصد،  ويقررون العودة بلا عودة.

قاهرة أخري…!

الحقيقة أن القاهرة تبدو بعيدة  سنوات ضوئية عما صورته وسائل الإعلام، الأفلام ، بل أحيانا تبدو قاهرة أخرى عن تلك الكتابات الحالمة للأدباء الشباب، أو الكلمات المنمقة الجميلة التى يتفوه بها  المشاهير من  كل الأطياف والفئات، فهؤلاء لا يرون الزحام المهول في المواصلات، أو يتنسمون رائحة العوادم، أو تصطدم أعينهم بالكتل الإسمنتية المختلفة في انتهاك لأبسط قواعد العمران، فلا يوجد لون أخضر ولو على سبيل الصدفة أو الخطأ سوى في  الأماكن العامة والميادين و”الكومباندات”!


القاهرة

و هؤلاء لم يصطدموا  مع الواقع الذى يضع منطق القوة كلائحة أساسية تحكم العلاقات، أو تلك الشعارات التى تقتل المنظومة الأخلاقية الإنسانية مثل “يا لا نفسى”، “أنا ومن بعدى الطوفان”، أو حتى “تملق من فوقك يخضع لك من تحتك”!.

للأسف لم تعد القاهرة العاصمة الكوزموبوليتانية التى تضم كل الأطياف وتستقبل الجديد بود وترحاب، تستوعب وتخلق فى حركة متوازية مهن تجارية اقتصادية أو ثقافية تعبر عنها وعن روحها الإنسانية الرحبة التي لطالما اشتهرت بها، بل صارت تجسد كلمات الشاعر “سيد حجاب”والتى تم غنائها لأحدى  أشهر المسلسلات المصرية هى “الشهد والدموع” والذى ظهر  في نهاية الثمانينات :”تحت نفس الشمس، وفوق نفس التراب كلنا بنجرى ورا نفس السراب، كلنا من أم واحدة وأب واحد ..دم واحد ..بس حاسين باغتراب”.