عزة عبد القادر
عزة عبد القادر

د

العجوز…السعيد…

إذا أردت معرفة سر السعادة الأبدية، فدليلك هو ماثيو ريكارد 69 عام”أسعد رجل في العالم” كما تظهره وسائل الإعلام المختلفة،  حيث يقول ريكارد إنه يتأمل أحيانا لأيام كاملة دون الملل ، ووفقًا لموقع “ذي إندبندنت” ينصح ريكارد الناس  بالتوقف عن التفكير بالنفس، فالطريق لحياة سعيدة هو بالإيثار، فالتفكير الدائم بالنفس وحب المصلحة الشخصية هو أمر مجهد للغاية، ويؤدي في النهاية  إلى الحزن و التعاسة، ويوضح ريكارد أن الأرض فانية ، والتفكير بالنفس على الدوام يجعل منا أشخاص بائسة، لأننا نرى العالم كله يمثل تهديد لنا، فإذا كنا نريد السعادة علينا السعي وراء الخير الذي سيمنحنا شعور أفضل، وسنحظى بحب الجميع من حولنا.

جدو….

 أما أنا فلم يكن يخيل إلى يوماً  أنني كنت أرى إنساناً نادراً كالجوهرة صافياً  كالأنهار فقد كان  رجلاً سعيدا . كنت أرى عجوزاً يمشي ببطء ويتكلم بصوت منخفض ويحافظ على بعض الرياضات البسيطة ، فمجرد  أن يستيقظ يقوم برفع يداه لأعلى ثم يحركها في حركات دائرية ثم يشد ظهره ويعود لثنيه إلى أسفل  ويكرر ذلك عدة مرات دون ملل أو كلل ، وفي مهارة غريبة كان يستنشق الأوكسجين (شهيق) ثم يلفظه من فمه (زفير).. إنه .. جدي… جدي أنا.. نعم ..نعم إنه الأب الكبير.

بعد أن ينتهي جدي من ممارسة الرياضة  الصباحية في صمت يبتسم  متفاءلاً في راحة وسعادة موجهاً لنا تحية الصباح  ثم يطلب منا إحضار وجبة  الإفطار  ، وكان يواظب بانتظام على قراءة جريدة الأهرام.

كان جدي يظهر كأنه أسعد رجل في العالم . ولم أتخيل أن يشيع انسان السعادة لمن حوله مثلما كنت أراه رغم أنه هادئا يميل للصمت بشدة . فهو يفضل القراءة وسماع الناس بدلا من اللغو والكلام . فقد كان يحب شرفته (الفراندا) الكبيرة  ووفياً جدا لتفقدها حتى أننا كنا نشعر وكأنها محبوبته الوحيدة التي يتحدث معها طالما انه لا يتكلم ولا يشكو حتى تخيلنا انه لا يحزن ابداً .

 عيد الفطر … المرة الأولى

أتذكر جيدا المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى جدي ، لقد كانت شوارع شبرا تمتليء بالزينة والأنوار فرحاً وابتهاجاً بليلة العيد(عيد الفطرالمبارك) وكانت الفرحة الأكبر أن أذهب أنا وأخي أبي وأمي إلى البيت الكبير لنرى جدو ونقضي معه وقتاً ممتعاَ ، وقد بادر جدو بسرعة ليعطينا العيدية  وقد كدنا نطير من الفرح لأنه أعطى كل منا خمسة جنيهات وكان هذا عام 1984 عندما كان للجنيه قيمة كبيرة والأكثر من ذلك إننا كنا صغار جدا وتلك يمثل لنا نزهة جميلة وحلويات وآيس كريم وبمب وصواريخ وفيشار وغزل بنات لحد آخر يوم بالعيد ، يا سلام على جمال العيد ……

في بداية الأمر كنت أشعر بالخجل عندما أذهب إلى جدي لأن والدي ووالدتي كانوا ينبهوننا إلى الوصايا العشر المعروفة وهي ( لا تزعجوا جدو- لا تمدوا أيديكم إلى شيء طالما لم يؤذن لكم – لا تثرثروا كثيرا  … ألخ .. ألخ)، ولكن جدي سهل علينا الأمر وسمح لنا بالجلوس في الفراندا الواسعة المطلة على شوارع شبرا من ثلاث اتجاهات وقد جلسنا لنلعب الدومينو بشرط أن نأخذ معنا الكعك والبسكويت الذي أحضره لنا ، يا له من جد عظيم وكريم .

جلست أنا وأخي ننظر إلى الشوارع حيث تتزين الشبابيك والبلكونات بالشراشيب والمثلثات الورقية وتتدلى على المباني عقود المصابيح الكهربية بألوان لامعة ، وتعلو الأغاني وأناشيد العيد في كل مكان ، لقد تمنيت أن يتركني والدي في الشرفة حتى الصباح فأنا لا أريد الرجوع للبيت ، أنا أريد أن أعيش مع جدي دائما ،  وقد بادر جدو إلى تخصيص الحجرات لنا بالفعل ولم يسمح لنا بالرحيل . فنحن أحفاده الغاليين ، يا له من جد رائع ويا لها من أجازة جميلة.

جدي في أرذل العمر …

لقد مر الزمان ورأينا جدو وقد أصبح عجوزاً في أرذل العمر وقد بلغ من العمر مائة عام  ولازال متسماً بالحكمة والمرح . يا الله … إنه جدنا الرائع لازال يعيش بعافيته. اللهم ارزقه العمر المديد يارب. 

نشعر في أحيان كثيرة نحن الأحفاد أن الأب الكبير لا يسمع كل ما نقول حيث يمكننا تجاوز كل شيء دون أن يعرف ولهذا فإنه من السهل أن نغرق في الفوضى بعض الوقت لأن جدي لن ينتبه فهو الرجل العجوز بطيء الحركة منخفض السمع وقد قررت يوما  أنا وابنة عمي أن نلعب لعبة (بنك الحظ)  وأخذتنا اللعبة ونسينا أننا تركنا صنبور الماء مفتوحاً  وفجأة رأينا الماء يتسلل من تحت الباب  ، لقد صدمنا  من هول المشهد ، و أخذنا الوجوم والصمت وقد شعرت  في تلك اللحظة بالخوف  وذهبت مسرعة فوجدت الأرض غارقة بالماء ، وحاولت غلق الصنبور ولكني تغافلت فسقط  المقبض الشمال على الأرض ورن صوته عالياً .. ، وسمعت  ثمة أقدام تأتي نحوي … فنظرت ورائي لأجد جدي .. يقول : ألم أقل لك أن المقبض على اليسار غير صالح  فلماذا  تستخدميه . فأجبته : نعم يا جدي ولكن أنا  نسيت .. اسفة يا جدو ، ورد جدو في هدوء شديد :  انت نسيتي لأنك مشغولة باللعب .. لا تقلقي .. ضعيها مرة أخرى وجففي الماء وسيأتي السباك لإصلاح كل شيء .. وعلى الفور رددت على جدي وقلت له : حاضر يا جدو.

ياه يا جدي … ونحن الذين كنا نعتقد أنك لا تسمع جيداً ولن تنتبه للعب ولا لصوت المقبض. ..

عرفت كم أن جدي يعرف كل شيء ويسمع كل شيء ولكنه لا يظهر لنا ذلك لأنه يعطينا الحرية ولا يريد أن يقطع علينا صفوة الحماس واللعب.

نهاية الصيف ….

في نهاية اليوم الطويل المليء باللعب شعرت أن الأجازة الصيفية أوشكت على الانتهاء وأن إقامتي عند جدي باتت أياماً معدودة ، فقد اقترب الخريف وسنعاود أدراجنا إلى المدرسة ليبدأ الفصل الدراسي مرة أخرى . ولكننا لازلنا لم نزهد في التنزه والحرية  بعد فإننا لم نذهب لكل الأماكن التي كنا نريد الذهاب إليها. ولم نشبع بعد من لعب الكوتشينة والبلي وأيضا لم نتعلم من جدي كيفية حل الكلمات المتقاطعة. ..

في الأجازة القادمة سيكون لدينا الكثير من الخطط والرحلات التي سنقوم بها بإذن الله ولن يفوتنا شيء في تلك المرة . وأجازة نصف العام ليست منا ببعيد.

الوداع ….

إذا كان ثمة انسان في تلك الحياة يمثل لك معنى الفرحة فإنه من الصعب ،ومن المؤلم أن تراه مجروحا. لكننا يجب علينا في كافة الأحوال أن نؤمن بأن الالأم مكتوبة على جميع البشر مهما كانت صفاتهم وأشكالهم

ذات يوم رأيت على وجه جدي علامات الوجوم والحزن وحاولت معرفة السبب الذي يجعله هكذا ولكني لم أستطع اقتحام عالمه ، فقد لاحظت أنه يجلس في صمت ويقرأ الجريدة كما يفعل كل يوم ولكن في هذا اليوم لاحظت انه رسم دائرة على أحد أسماء المتوفين ، وانتظرت بعض الوقت وتوجهت بالسؤال لوالدتي عن حزن جدي على أحد المتوفين و، عرفت منها أنه كان أقرب واخر صديق لجدي وهو الآن يشعر أن كل الأصدقاء رحلوا إلا هو لازال يعيش في الدنيا .

يا لتلك الحياة فإنه مهما كنت ترى السعادة في الوجوه فإنك لا تعلم ما يخفيه في باطنه ، وربما تكمن  الآلام العميقة في الوجوه الهادئة والعيون الباسمة، لقد كان جدي مثالاً على ذلك عندما ماتت ابنته الحبيبة التي كانت توأماً لروحه لكونها لم تفارقه طيلة حياته ، فقد كانت زهرة الحياة وفرحتها ، فلما رحلت رحلت معها الذكريات والمعاني والكلمات ، فقد أصبح جدي وحيداً رغم أننا جميعا حوله ، لم يحتمل فراق الابنة الغالية ولم يستطع أن يبكي وينتحب مثلما تفعل النساء وكان ذلك إيذانا بالوداع . لقد ودع جدي بعدها الحياة ليسدل الستار على أجمل رجل عجوز رأيناه في حياتنا.