ريحان مرغم
ريحان مرغم

د

السّعادةُ طفولةُ القلب

طالما أبدع الرافعيّ في مطالع كتاباته، بل في كتاباته كلّها، ذلك المصريّ الفذّ الذي إذا قال دلّ وأوجز، وإذا أفصح أبَان، وإذا خاطب أجاد، وإذا عرّى عن جروحه كانت أكثر منه فصاحةً وأغزر بيانًا وهو الذي ترى في مداد قلمه المسهب والمقتضب، وترى معاني عميقةٍ على قصرها، ومشاعرَ فيّاضةٍ على تسترها، فتراه تارةً يقول: “إذا لم تزد على الحياة شيئا تكن أنت زائدًا عليها”، وتارة أخرى يقول: ” لا يُريد الهمّ منك أكثر من أن تريده فيأتي”، ومرة ثالثة يبدع ويقول: ” ليكن غرضك من القراءة اكتساب قريحةٍ مستقلّة، وفكر واسع، وملكة تقوى على الابتكار”..

ثمّ ننظر فإذ به يختصر لنا مسمى السعادة الذي ما فتئت حياةُ البشرية مذ خلق الله آدم تسعى إليه، وتتنازع من أجله، وتقوم على أساسه ليضعها في حيّزٍ واحدٍ بيّن: طُفُولة القلب!

من هنا، أعود بكم -يا سادة- سنواتٍ إلى الوراء، كنتُ فيها شديدة الانشغال بدراستي إلى حدٍّ أنساني نفسي، والحقّ الذي لها عليّ حتّى جعلني مريضةً طريحة الفراش، فجاءت حينها جدّتي بعفويتها الفائقة ولهجتها الجزائرية الأصيلة كي تقول لي:
” يا بنتي، رديم الڨلب أو واعر” تقصد أن خراب القلب صعبٌ غير هيّن، وهي التي لا تقرأ ولا تكتب، غير أنّها بعبارتها تلك أوجدت الداء والدواء، فما عسَاها تكون شيخوخة القلبِ، وفراغه من كلّ نضارةٍ، وحماسةٍ وشغفٍ وطاقة غيرَ السبيل إلى التعاسة، والبؤس؟!

من الناس ميت وهو حي بذكره

وحيّ سليمٌ وهو في النّاس ميتُ

فأمّا الأول فبحياة قلبِه، وطُفولته، والطاقة العظيمة التي تحويه. وأمّا الثاني فبفراغه وموته.
نُجهد أنفسنا في البَحث البعيد عن أشياء هي أقرب إلينا منَّا، ونكسب للمادية نظرةً تكاد تصل إلى التقديس ظنًّا منَّا أنّها الطريق إلى غاية السّعادة الكبرى، فنخطئ الطريق!
ونحن إذ نظرنا إلى الأفق البعيد، تناسينا أنّ ما نبحث عنه أمامنا: روح الطفل داخل قلوبنا! فرحٌ بوردة، واحتفاء بلعبةٍ، وبناء بكلمة طيّبةٍ، ومُضيٌّ بابتسامةٍ، وخصوبةُ خيالٍ، وطول تأمّل.
هذه هي السّعادة – يا سادة – : جَمال الرضى، وكنزُ القناعة، وسلامةُ البال من الأعباء التي لا طائل منها، وحُبٌّ عنيف للأشياء حولنا، وطاقةٌ عجيبةٌ نُسخرها في سبيل ذلك الحُبّ، وعفوية الحديث، واستمرارية اللعب كلما سنحت الفرصة بعيدًا عن حواجز ” لقد كبرنا” والحدود الفاصلة بين “عالم الكبار والصغار”، وخلوّ الصدر من الأذى، وعيش اللحظة، وسرعة النسيان، والاستمتاع بما بين أيدينا، وبساطة التعامل مع الأمور دون كثير تعقيد ولا عظيم توقّع.

وأنا إذ أقرأ هذه العبارة: السعادة طفولة القلب، أكاد أجزم بعدها طفولة قلب الصحابي الذي قال عنه رسول الله (ص) أنه من أهل الجنة، فلما بحثوا عن نوافل يصليها، أو أيَّام كثيرة يصومها وجدوا أنه لا يقوم إلا بالفرائض ولكن:
” غير أنى أبيت كل ليلة وليس فى قلبى غلٌ ولا غشٌ ولا حقدٌ ولا حسدٌ لأحدٍ” يقول،

فبلغ بقلب الطفل ما بلغ بمعيار السّعادة عنده، وتلكم والله عين السعادة، وما أكثر قربها منَّا، وما أعظم تجسدها في روح الصبيّ الجائعِ الذي لا يشغله جوعه عن لعبِ كرة القدم، وما أشدّ جهلنا بها!