عمران العبد
عمران العبد

د

السعي نحو الكمال .. نعمة أم نقمة؟

السعي نحو الكمال أو الـ(Perfectionism) ويعني الكماليّة، صِفة نفسيّة غالباً ما يُنظر إليها على أنها سمةٌ إيجابيّة تدفع بك نحو التطوّر وتزيد من فرصك بالتقدم والنجاح، ولكنها من الممكن ايضاً أن تتحول إلى أفكار وسلوكيات سلبية، قد تشكّل عائقاً في طريقك لتحقيق أهدافك.

فإن كنت من الذين يُلزمون أنفسهم بمعايير مثالية للغاية، أو ممن لديهم صوت داخلي يذكرهم دائماً بتقصيرهم ونقصهم بغض النظر عما أنجزوه، أو تؤجل بعض المهام خوفاً من ألّا تقوم بها على الوجه الأمثل، فمن الأرجح أن تكون مصاباً بهوس الكماليّة!

ستسأل نفسك الآن: أليس من المفترض أن يكون السعي نحو الكمال فضيلة عظمى؟
وللإجابة على هذا السؤال سأخبرك بوجود نوعان من الإنجازات:

  • النوع الأول: إيجابي ومطلوب منا جميعاً بحيث أن تسعى لتحسين أوضاعك ولكن مع الشعور بالرضى عن النفس وتقبّل فكرة أننا بشر ومن الطبيعي أن نخطأ ونصيب.
  • النوع الثاني: هو النوع السلبي غير الصحيّ، ويتضمن جلد الذات والشعور بالنقص، لعدم كونك الأفضل في مجالك، سواءً في عملك أو دراستك أو علاقاتك، وسنستعرض في هذا المقال أسبابه وتأثيراته على حياتك والطرق الصحيحة للتخلص من هذا السلوك المرهق.

أقرأ أيضًا: قل وداعاً للمثالية واستمتع بالحياة!

صفات المصابين بهوس السعي نحو الكمال

لا أحد كامل

تذكّر، ليس هنالك وجود للإنسان المثالي!
  • التعامل بعقلية كل شيء أو لا شيء!
    يميل الكماليون الى وضع القوانين والشروط الصارمة على أنفسهم ويعملون على تحقيقها، ولكن بمجرد حدوث خلل بسيط أو تقصير ما، ينظرون إليه على أنه فشل ذريع ويقررون الاِستسلام والقبول باللاشيء.
  • التسويف المستمر
    نعم عزيزي القارئ! إنَّ السعي نحو الكمال مرحلة متطورة من أشكال التسويف، إذ يقوم الشخص بالتأجيل المستمر للمهام والواجبات، إلى أن تتوفر الظروف المثاليّة التي تمكنهم من أداء هذه المهام على أمثل حال.
  • أن يكون الشخص شديد النقد
    الساعين نحو الكمال هم أكثر الأشخاص اِنتقاداً لأنفسهم وللآخرين، فهم يركّزون على العيوب فقط، ويواجهون صعوبةً في رؤية أي إنجاز لم يحقق الكمال على أنه نجاح، بينما تجد الأشخاص المعتدلين راضين عن إنجازاتهم الجيدة ودائموا الدعم للآخرين.
  • عدم تقبّل النقد
    في حين أنهم أكبر الناقدين، تجدهم لا يتقبّلون النقد ويتعاملون معه بـ ردّة فعل دفاعية، حتى وإن كان النقد بنّاءً، فهم ينظرون إليه على أنه تقليل من شأنهم وقدراتهم، على عكس الناجحين الذين يرون النقد معلومات ذهبية تساعدهم في التطوير من أنفسهم مستقبلاً.
  • الخوف الشديد من الفشل، ورفض أي تقصير
    الحالمين في الكمال هم أيضاً أكثر الأشخاص خوفاً من الفشل، فهم يضعون أهدافاً خيالية يصعب تحقيقها، وعند عدم القدرة على إنجازها يُصابون بخيبة أملٍ كبيرة، أشبه ما تكون بوصمة عار، وعندها يصبح الفشل مخيفاً للغاية، ويجعل الأمر أكثر صعوبة عند البدأ في أمرٍ جديد.
  • التركيز على النتائج النهائية، لا على الجهد المبذول
    يستمتع الأشخاص الناجحون في رحلة النجاح ويعيشون تفاصيلها بقدر السعادة التي تكون عند الوصول إلى الهدف وربما أكثر، بينما الشخص الذي يسعى نحو الكمال، يكون على طول الرحلة قلقًا جدًا بشأن النتائج وتجنب الفشل في النهاية إلى درجة تمنعه من الاستمتاع بعملية النمو.

لا يمكننا قيادة النتائج، فقط يمكننا السعي جاهدين

المهاتما غاندي الأب الروحي للمقاومة السلمية في الهند

  • لا يتذوق طعم النجاح
    في الوقت الذي يكون فيه الجميع يباركون ويحتفون بإنجازات الشخص الغارق بالسعي نحو الكمال، إلا أن شعور القلق والتقصير يبقى مسيطراً عليه، في حال كان هذا النجاح ليس مثالياً مئة بالمئة، وبالتالي يفقد لذّة الشعور بالإنجاز.

تأثير عقدة الكماليّة على مختلف نواحي الحياة


تأثير عقدة الكمالية
  • على الصداقات أو العلاقات العاطفية: يمكن أن يتسبب السعي نحو الكمال في العلاقات والصداقات، في جعل الناس يضعون معايير غير واقعية على أحبائهم ويرفعون سقف توقعاتهم أكثر من الحد الطبيعي، مما يؤدي إلى زيادة الضغط والتوتر على هذه العلاقات.
  • على الصحة الجسدية: من المفارقات أن هذا الهوس يمكن أن يؤدي إلى كوارث صحية، فعلى سبيل المثال من الممكن أن تخضع فتاة غير مقتنعة بمظهرها إلى عمليات تجميل خطيرة، أو أن تخضع لنظام غذائي صارم قد يودي بصحتها، بغاية الوصول إلى الشكل الأجمل.
  • في مكان العمل أو الدراسة: قد يستغرق الساعي للكمالية في مكان عمله أو دراسته وقتًا أطول من أقرانه لإكمال المهام الموكلة إليه أو الواجبات المطلوبة منه، وقد يتجنب أيضًا القيام بمهمة لا يشعر بالثقة فيها، وغالبًا ما يكون هذا بسبب الرغبة في إتمامها على أكمل وجه، والاعتقاد بأن فقدان نقطتين في الإختبار علامة على الفشل.
  • على شكل المظهر الخارجي: يمكن أن يتسبب هذا الهوس في قلق الشخص بشكل مفرط حيال مظهرهم الشخصي وأناقتهم، فقد يستغرق ساعات في اختيار الملابس التي يريد أن يرتديها، وساعات أخرى أمام المرآة لتصفيف شعره.
  • أسلوب الكلام والكتابة: من الممكن أن يقوم بقضاء 20 دقيقة في كتابة وإعادة كتابة رسالة إلكترونية مؤلفة من سطرين، ويمكن أن يتجنب الكلام في اللقاءات العامّة خوفًا من أن تكون جودة حديثه أقل من الصورة المرسومة في خياله.

أسباب عقدة السعي نحو الكمال


كتاب نعمة عدم الكمال – د.برينيه براون

يتحدث الكاتب برينيه براون في كتابه “نعمة عدم الكمال” عن الأسباب التي قد تدفع الأشخاص إلى إرتداء قناع المثالية وادعاء العصمة، ويقول أنها تتمحور حول شيء رئيسي وهو الخوف:

  • 1- الخوف من فقد الناس: حيث يعتقد المرىء أنه لو عرف الناس بالعيوب التي لديه فإنهم سيتخلون عنه.
  • 2- الخوف من الفشل: كما ذكرنا سابقًا فإن الخوف المفرط من الفشل والإخفاق يدفع الشخص لأن يتمسك بفكرة الوصول إلى أفضل النتائج.
  • 3- الخوف من النقص وانعدام الثقة بالنفس: حيث يظن الشخص أنه أقل من القيمة التي يعطيه أياها الآخرون، مما يؤدي إلى تحميل نفسه أعباء غير موجودة أصلًا.
  • 4- الخوف من الخيار الأفضل: فمثلًا اذا كان هناك شاب يرغب بالتسجيل في دورة تدريبية ما، وكان أمامه أكثر من مدرب ليختار من بينهم، فيبقى مترددًا في تحديد الأفضل واختياره، حتى تفوته جميعها ولا يسجل في أي منها.

في دراسة نشرها الطبيب النفسي (Joseph Sacks) تشير إلى أنه من أحد أهم الأسباب التي تؤدي إلى إصابة الشخص بعقدة السعي للكمال تعود إلى الذكريات القديمة وأساليب التربية المغلوطة، كالمقارنة الدائمة بين الطفل وأقرانه -مثل مقارنتك الدائمة بأبن خالتك مثلًا- مما يخلق عند الطفل شعورًا دائمًا بالنقص، ويبقى يعمل جاهدًا على سدّه، إلى أن يتحول نقد الوالدين والمجتمع، إلى نقد داخلي مستمر.

نصائح للخروج من سجن السعي نحو الكمال:

  • تخلص من عقلية كل شيء أو لا شيء: لأنك ببساطة ستحصل على اللاشيء.
  • قم بخفض معاييرك: ينصح الأطباء النفسيين بأن تستهدف إنجاز 80 ٪ من مهامك بدلًا من 100٪ وستلاحظ عندها زيادة ملحوظة في إنتاجيتك.
  • تقبّل ذاتك: عليك أن تتصالح مع نفسك وتدرك أن قيمتك لا تتعلق فقط بالإنجازات التي حققتها، او أن حب الناس لك يكون فقط عند استمرارك بالنجاح.
  • الفشل لا يعني الضعف: جميع الناجحين لم يحققوا النجاح من الخطوة الأولى، وإنما كان نجاحهم ثمرةً للعديد من التجارب السابقة التي باءت بالفشل.
  • ضع أهدافًا واقعية: من الغير المنطقي أن تلزم نفسك بإنجاز مهام خارقة لقدراتك وظروفك، وعند عدم تحقيقها -وهو شيء طبيعي- تقضي أشهر مصاب بالغضب والإحباط.
  • حدد الفرق بين الإجتهاد والإتقان وبين الكمال: فالمطلوب منا هو الإتقان، وهو استفراغ الوسع والمجهود لتحقيق أعلى النتائج الممكنة، وليس السعي نحو الكمال، فإن الكمال هو لله وحده.

وفي الختام، اعلم أنه لم ينتصر قائد بارع عبر التاريخ في كل المعارك، ولم ينجح طبيب ماهر عبر العصور في كل العمليات الجراحية، ولم يحصل أن حقق ريال مدريد هدف من كل هجمة على المرمى، بل ليست كل بذرة يزرعها المزارع تتحول إلى شجرة عظيمة! فالنجاح الحقيقي والكمال الحقيقي هو أن لا يبخل الإنسان على نفسه بالمحاولة المضنية، ثم يتحلّى بعد ذلك بالرضى فيما حققه، فاطرح عن نفسك أوهام الكمال وابحث عن ما هو مطلوب منك وأدّه على أحسن حال.

ولكن عليك أن تنتبه أن هذا لا يعني أن تخفض من جودة أعمالك او أن تهمل ما هو مطلوب منك تحقيقه، ولكن لا تقع في فخ الكماليّة، حيث أنه كلما كان هناك إصرار على الكمال، تعطل مجيء الجيد النافع الذي يحقق المطلوب، أما الكمال فإنه لن يأتي مطلقًا.

“Perfect is the enemy of good”

عبارة منسوبة للعالم الفرنسي فولتير