سارة الشافعي
سارة الشافعي

د

الحنين في حضرة الغياب

نعتاد على كل شيء في الحياة من حولنا، ونعمل على الحفاظ على تلك العادة بكل الطرق المتاحة لنصل لما نظن أنه الاستقرار الذي يبحث عنه الجميع.

نعتاد البيوت والشوارع، نعتاد الوظيفة والمحيط المجتمعي الذي نحيا به. نعتاد حتى الضوضاء المصاحبة لما يحدث بحيواتنا في الخلفية، ولكننا لا ندرك هذا وقتها.

نعتاد على كل ما يحيط بنا وقد يتعلق بعضنا بما اعتاده بشكل مرضي، فلا نغير طريق العودة للمنزل، ولا نشرب قهوة بدلاً من الشاي في الصباح بحكم العادة، حتى يحدث ما يكسر تلك العادة. سواء كنا سبب لهذا التغير أو فقط متلقين يحدث التغير شئنا أم أبينا، ونجد ما أعتدنا عليه وقد اختفى للأبد وتركنا في حالة من عدم الاستقرار.

يتغير الطريق من حولنا، أو تقطع بعض الأشجار وتهدم البيوت ليبنى غيرها. الكثير من الأشياء من أصغر التفاصيل لأكبرها تتغير ويتغير معها ما كنا نتعلق بها ونعتاد عليه، ويغير معه مزاجنا بنفس مقدار تعلقنا بما فقدناه.

مع كل ما يتغير من حولنا نتغير نحن أيضاً ولا نلاحظ بنفس السرعة، ولا ندرك مقدار التغير حتى نفاجئ أنفسنا بما أصبحنا عليه.

في الأغلب لا يكون التغيير سيء، ولا يكون كسر العادة مميت أو غير قابل للتعاطي معه، فالشيء الثابت الوحيد في حيواتنا هو التغيير لكن لا يخبرنا أحد بهذا أو يؤهلنا للتعامل معه فنحن لما كنا عليه ولعادتنا القديمة.

تظل الذكرى في عقولنا والصور التي توثق لحظاتنا وأماكننا المفضلة معنا بعد أن تختفي معالم الأماكن، ويرحل الأشخاص. لكن يظل الحنين لما فقدناه ورحل في نفوسنا، حنين للأوقات التي قضيناها في أماكن لم تعد موجودة، وحنين لأناس رحلوا ولم يبقى منهم سوى الذكرى.

يقال أن الأماكن كذلك تشعر بالحنين لأصحابها ومرتاديها، تحزن على رحيلهم وتشعر بوجودهم بها.

شغلتني الفكرة بعد اقتلاع حديقة مجاورة لمنزلي بالكامل، ولم يبق منها سوى خزان ماء قديم كان يشرف في السابق على الأشجار والمقاعد التي كنا نجلس عليها ونلعب حولها صغاراً.

لفترة تجنبت الذهاب حول المكان حتى لا أبحث عن ماضي فلا أجده، حتى اضطرتني الظروف للذهاب للمكان الجديد.

تم استبدال كل شيء بمبان من الخرسان والأسمنت ووضعت لافتات عدة لامعة تعمي الأبصار، لتغير معالم المكان بالكامل باستثناء الخزان الذي ترك بالخلف على قطعة من الحديقة لم تمس بعد لكنها مغلقة.

كما كان يشرف على الحديقة سابقاً أصبح يشرف على كتل الخرسات الحديثة والرخام. أمر أمامه وأفكر وأنا أنظر إليه هل كان السابقون محقين فيما قالوا عن حنين الأشياء والأماكن لأصاحبها؟ هل يذكر القرميد الجامد كل من مروا به وجلسوا أمامه ولعبوا تحت سلمه؟ هل يشعر مثلي بالحنين لمكانه القديم الهادئ وللأطفال الصغار والأباء يجلسون من حولهم؟ أم أنها فكرة أعجبتني وأنا أستمتع بالنظر للذكرى الوحيدة الباقية من المكان؟

لن تتوقف الحياة عن التغير، كما لا يمكننا أن نبحث عمن رحلوا بين الموجودات، فهو بحث غير مجدي ولن يحيا من ذهب، أو يعيد من ابتعد. ومهما اختلفت الأماكن وتبدلت تظل الذكرى جميلة ودافئة مهما مر الزمن ومهما اختفى كل شيء من حولنا اعتدنا عليه.