عبدالغني موساوي
عبدالغني موساوي

د

الجنسية التي يحملها الجميع !


بذلك المساء حين باشرت الشمس في سحب وشاحها الأصفر بتثاقل، متمهلة في حركات بطيئة و كأنها تنتظر وقوع شيء او تريد أن تكون شاهدة على بداية قصة ما او طرفا بأحداثها ..
كانت السادسة و بضع دقائق حين تفقدت الوقت بمعصمي ..
كنت على وشك المغادرة ..
أنظر إلى الأفق و اغرق بنظري في ذلك البعد الجميل ،تسحبني و تتجاذبني أطراف المساء و تمسك بعيني يد الجمال ..
أقف متسمرا بمكاني أنظر الى روعة المشهد ، كل شيء يرتسم و يتجمع في لوحة إنطباعية يجسدها انعكاس الشمس بوجه البحر ،حركة الرياح و تتالي الأمواج، نسمات البحر و تزاحم أصوات طيور النورس وهي تحوم فوق القوارب الخشبية المرتجفة وتنشد أجمل أغاني المساء متبوعة بمعزوفة الامواج تجلد الصخور باطراف الشواطيء كل يوم ، الكثير من العناصر الطبيعية التي تشدني و تشترك في صناعة الجمال من حولي ..
كانت نسمات البحر عليلة ، تمتطي ظهر الرياح و تتطاير بكل سعادة مترنحة ،تلامس أجسادنا و تحط خيامها ببطء فوق وجوهنا غير مستأذنة .. تشعرك بشيء من سعادة لا تعي مصدرها
أحاسيس غريبة تتدفق الى روحك الرقيقة ،تُشغل بداخلك زر الإنبهار و الدهشة و تغمرك بفيض من الكلمات و تحرك الأقلام بدفاترك
قد تجد نفسك فجاة تحمل حجرا و تحدثه عن أشياء تثقلك ،و ربما ستقترب من الشاطيء أكثر و أكثر و تروي لأمواج البحر المتوالية قصتك ،حياتك انكساراتك و عثراتك و ربما ستهمس لها بإنتصاراتك ايضا .. ستجد أنك جننت و انت تحاول ان تستوقف نورسا لتحدثه عنك..
ربما هكذا شعر ذلك الغريب و هكذا حدثني، إقترب مني ،أمسك بمرفقي وراح يحدق الي بعيون صادقة ، دون مقدمات يخبرني و يحاول قدر الإمكان ان لا يسقط أمامي ..
كان متوسط القامة ضخم البنية ،بوجه أبيض دائري و عينان قرنفليتان مثقلتان بالقصص ..
من مظهره كان يبدو قويا ، و لكنه حين تحدث ، كم بدى ضعيفا و صغيرا أمامي ..
مثل طفل يتيم بصف المدرسة يحاول ان يركب بالحروف كلمات ويكون جملا ليعبر عن شيء لا يملكه ليكتب عن ام فقدها منذ زمن
ألهذه الدرجة تقسو علينا الايام و المواقف ، و هل نحن قادرون على صناعة ذكريات سعيدة من مخلفات الفقد و آلامه المتراكمة بداخلنا ..
ألهذه الدرجة يفعل بنا الفقد ،لنصير امامه صغارا و ضعفاء .و نحن بسن الرشد
ذلك الغريب …
لم يعد غريبا ، فلا غرباء في الحزن ،
كلنا نتشارك جنسيته .. كلنا نحملها مرغمين
نحن فقط نختلف في طريقة إخفائها عن الأنظار ..
هناك من لا يجيد إخفاء جنسيته فتراها للوهلة الاولى تلمع بعينيه و هناك من يحملها في لسانه بأول كلمة و هو يسرد قصته ..
و هناك من تميزها في صوته المرهق ،تسمعها في أناته و تنهداته الطويلة و هناك من يحملها و يواريها بقلبه و ذلك هو الأصعب . هو كذلك الولاء ..
اولائك الذين تجدهم وسط المآسي صامدين
متمسكين لا تذرف لهم دمعة و لا يخونهم صوتهم ..و لا تتوه بهم النظرات ..
اولائك الذين يخفون الحزن بقلوبهم و يحتفظون بجل تفاصيله الصغيرة و يشيدون منها قلاعا بقلوبهم ..
اولائك الذين يناديهم البعض بالقساة ،و يدعوهم البعض الآخر بفاقدي الإحساس ..
أصحاب النظرات الحادة والجمل القصيرة ..
و الاصوات الهادئة ..
تمر الايام يتراكم الولاء
يثقل القلب و تعمر الذاكرة وتنهار الاعمدة و تتلاشى القلاع ..
حينها فقط يمكننا ان نناديهم بالمجانين
بعد ان تخلو عن ولائهم ،وصاروا يثرثرون بالشوارع ،و الارصفة ، ويحملون جنسيتهم في مظهرهم و يصرخون بها و يتقيؤونها بكل كلمة ،و لكنك لن تراهم يبكون ..سيبوحون بكل شيء و هم يضحكون ..
لم يكن ذلك الواقف امامي يخفي جنسيته بل ظهرت جلية امامي في نظراته في صوته المتقطع و انفاسه المقتضبة ..
حاول في باديء الامر ان يحافظ على مظهره
حاول ان يخفي شيئا عن جنسيته ..
ولكن كلماته كانت تتعرى أمامي و تكشف عن حجم الحزن و الوجع الذي يلف قلبه و يتعب ذاكرته ..

لحد الآن لا يصدق كيف فقده ،أي يد تلك التي سحبته منه ،أي أجنحة طارت به
لازال ألم الفقد يعبث به و يسحبه مثل المد الى العمق ..مثل الموج يعيده من الشاطيء ثم يغرقه بالأسفل أكثر و أكثر ..
قال بصدق لم اره في ملامح شخص من قبل في نبرة صوته و نظراته الباهتة قرأت ما لم يكتبه بسطوره.
كانت الدموع تتجمع في عينيه حين كان يحدثني عن والده و يسألني عن والدي..
كان حديثه عن الوالدين حديث شخص أدرك متأخرا قيمة الاب و معنى العائلة ..
هو اليوم مبعثر لا يعرف على ماذا يتكيء بعدما إنهد الجدار الذي كان يتكيء عليه
اصطدم بقطار ..
في كلمات سريعة و جمل متداخلة قال لقد صدمه القطار و فقدته بذلك الحادث مباشرة ،لم يذكر تفاصيلا كثيرة عن الفاجعة و مر مسرعا مثلما مر ذلك القطار تماما و لم يتمهل ،كان و كانه في صراع مع الكثير من المشاهد المؤلمة برأسه ،يتخطاها مسرعا و يمر حتى أني بالكاد استطعت فهم أسباب الحادث لم يترك لي الفرصة لسؤاله ..
ربما هو هكذا الفقدان بعده لا يصبح للتفاصيل طعم او معنى، موجع تذكرها او ذكرها أمام الآخرين و مؤلم أيضا
تخطى العديد من المشاهد و قال في جملة لخصت كل شيء الاب هو الغطاء الذي يغمرك بدفئه ،هو السند هو الجدار حين تنهار جدران العالم ..
رغم أني شارفت الاربعين عاما إلا أني في غياب والدي أحس أني صغير جدا .
بعض التفاصيل لا يمكننا الحديث عنها إن كانت ستقودنا في نهايتها إلى شيء فقدناه.
لن تضيف شيئا بقدر ما ستوجعنا اكثر ، فذلك الجانب من التفاصيل يحمل ما عشناه من سعادة مع جل من فقدناهم.