غادة العمودي
غادة العمودي

د

أستلّ وجودي

من قرأ – أو سيقرأ- رواية “السيدة دالاواي” للكاتبة روجينا وولف، سيقف حتما أمام شخصية “سبتيموس”. هذا الشاب المدلل المغمور رغم انحداره من عائلة نبيلة، والذي كان يرجو من حوله؛ أن يكتسب رجولة حقيقية عبر انضمامه لرياضات مثل ركوب الخيل. ثم ما تلبث الحرب الأوروبية أن تندلع بشراسة لتورط أوروبا كلها، فيتم استدعاء سيبتموس للخدمة العسكرية، وخلال سنوات الحرب ينضج سيبتموس من تأثير كثرة الفظائع التي شهدها؛ من إراقة الدماء، والسير بين الموتى، والدمار الذي يطال كل شيء، حتى موت قائده وصديقه في الكتيبة أفينز! كل هذا نقل سيبتموس ، وهو لم يتجاوز بعد الثلاثين من عمره، ليصبح “أكبر من عمره” نضجا ورؤية للحياة! -هكذا صار يمدحه أهله بعد عودته من الحرب – ولكن، وعبر السنوات الخمس التالية للحرب، تبدأ أعراض المرض النفسي تظهر على سبيتموس، فهو يرى نفسه “رسول العالم” المؤهل ليخلصه من الجحيم، وأن عليه أن يبذل نفسه على شاكلة “المسيح” حتى ينقذ البشرية، وعندما تشتكي له زوجته الإيطالية من تأخر الإنجاب ورغبتها في أن يكون لهما طفل، يرد عليها سيبتموس: ومن يريد أن يزيد شقاء العالم عبر إنجاب المزيد من الكائنات الشبقة!

ما يستوقفنا في مقطع قصة سبيتموس، تلك الغرابة الفكرية المتوارثة: بأن من الجميل أن يصير الإنسان أكبر من عمره! كم طفل اغتيلت براءته عبر تشجيع الأهل والمحيط؛ على أن يترك التطور الطبيعي لطفولته؛ كي يظهر بمظهر الرجل أو الإنسان السوبرمان، أو أن يصبح فهمه يتجاوز عمره!

وإذا كانت الحرب وسيلة الألم ليجعلنا نقفز على مراحلنا العمرية، فإن القراءة، حين تكون متطرفة، لا تقل خطورة في الخطو بنا نحو إفادات غير مأمونة من الأفكار والعواطف التي ما يزال من المبكر علينا أن نقتحمهم بهذه الصبوة.
من المتداول، أن تسمع في محيط القراءات الأولى، من يقول لك أن أول قراءته كانت في مكتبة والده أو منزله، حيث الروايات المطولة أو الكتب الفكرية المعقدة، وبعضا من قصص الأطفال. وأن هذه القراءات الأولى قد وسعت آفاقه وجعلته يقفز على الأطر الضيقة للطفولة والوداعة. فهل ترى هذا “الوجدان” الذي سبق سنين عمره؛ قد نمى باتزان ودون تخليط بين أقصى ما في الأفكار من يمين ويسار؟! الشواهد كلها، من كل الخلفيات الأيدولوجية، تبرهن على فشل التجاوز الفكري!

وبما أني سرت على ذات الدرب، حيث تفتحت على قراءات أكبر من عمري، فقد دخلت تلك المتاهة الطويلة التي لا يتصل أولها بآخرها: أولها الطفولة، وآخرها النضج في غير أوانه.

ولهذا وجدتني، وعلى مدى السنين، “أحمِّل” القراءات المبكرة العميقة مصيبة أنني لم أستطع عيش التوافق الطبيعي مع نفسي ومحيطي، فالتكيف الذي نتميز به نحن الكائنات الإنسانية إنما يأتي من أن تنمو كل أحوالنا باتجاهات موازية لبعضها، بما في ذلك النشاط الفكري والعاطفي.

واليوم، كل ما أود هو أن أستل وجودي من الكتب، من الصفحات المتربة، من الجمل المركبة والطويلة! إن القراءة جميلة كأداة نمو، ولكنها حين تسبق رهانا وجوديا فإنها تصير مدمر،ة لأن لا أحد بقدرته التصدي لكل سيل الأفكار الهادر عبر الأجيال، التي هي أطول من التاريخ نفسه.

ومع هذا، فإن ثمة وصفة ثلاثية قد تعيد لنا بعض “طبيعتنا” المستلبة، عندما كبرنا أكبر من عمرنا بين الكتب:

أولا: إعادة البحث في القراءات السابقة لنستعيض عن موقف التسليم بموقف الناقد والمعارض.

ثانيا: التوقف عن الرضوخ للرأي الذي يأتي عبر دعاية “الكتب الموصى بها”، فهي ليست بذات خير مطلقا.

ثالثا: القراءات -مثل كل مظاهر الحياة-بنت لحظتها، وعلى الصواب: بنت لحظة القارئ لا الكاتب، لذا يجب أن تشابه وظروف هذه اللحظات ، ولا تقفز عليها.

إن وهم أن الإنسان قد صار أكبر من عمره، إنما هو مؤشر على خلل نفسي يكبر مع الأيام، وليس من النضج المحمود في شيء. فالعمر ليس مجرد عداد أيام ، كما يوهمنا أعداء الزمن، بل إنه “مهلة” تجري فيها تغييرات تتطلب وقتا لتعبر إلى مراحل تالية، وما لم يأخذ كل من القلب والعقل وقتهما الخاص بهما، فإن الخيبات في كبير العمر ستكون أكثر من المكاسب، هذا لو رأينا مكسبا في أن لا يعيش الإنسان طفولته ولا مراهقته، بل يمضي كهلا بمعيشة طفل.

Photo by Debby Hudson on Unsplash