
في رحلة الحياة نفقد الكثير من الأشياء والأشخاص والفرص، حتى نرحل في النهاية.
نهاية حتمية لا مهرب منها، قد ننساها أحياناً وقد نتهرب منها، لكنها بانتظارنا مهما فعلنا. ومجرد التفكير في الأمر قد يؤدي للاكتئاب، لكن ما باليد حيلة لا يوجد أمامنا سوى أن نحيا ونسعى.
قالوا السعي لا يعني حتمية الوصول، ففي نهاية سعينا قد لا نصل لما كنا نطمح إليه، لكننا سنصل لمكان آخر، وسنحقق هدف آخر، وقد نغير أفكارنا وأحلامنا في منتصف الطريق. المهم أن لا نكف عن السعي.
من الأمثلة الجميلة (الحاجة زبيدة). إمرأة شارفت على عامها التسعين، قررت أن تتعلم بعد وفاة زوجها الذي كان يمنعها بعد والدها الذي رفض تعليمها حتى تتزوج. بعد كل هذه السنين قررت أن تعود لتحقق حلمها في التعلم وبدأت في تعلم اللغة العربية، وبعض الكلمات الإنجليزية بمنتهى الحماس.
بمفردها قررت وذهبت لأحد مراكز محو الأمية لتجلس على (تخته) كالطلاب الصغار كما قالت هي، بعدما رفضت أن تذهب إليها المدرسة للمنزل لتريحها من العناء.
خبر سعيد ومفرح جداً، والأجمل إتاحة الفرصة للحاجة زبيدة وأمثالها ممن حرموا من التعليم في الصغر.
ظهر بعدها منشور لأب لطفلة تدعى “عائشة” يتحدث عن تجربته مع طفلته، وبشكل غير مباشر وبالرغم من عدم تطرقه للحديث عن الحاجة زبيدة لا بالأسم أو بالإشارة، إلا أنه أثار الموضوع بأفج الطرق وأبشعها؛ فقد قرر هذا الأب أنه سيمنع طفلته التي لم تتجاوز الست أعوام عن التعليم الحكومي فهو لا يعتد به، ولا يسبب غير أذى الاختلاط، وعن كونه سيمنعها عن الخروج والتعامل مع أي شيء خارج المنزل حتى يحافظ على فطرتها ليسلمها لرجل آخر يبحث عن تلك الغرة الساذجة التي لا تعرف أي شيء سوى ما يخبرها به والآخرون من المتحكمين بها.
الأكثر حزناً أن أحد المعلقين وضع مقطع مصور لسيدة مثل عائشة وزبيدة لم تنل أي حظ من التعليم، يسألها المذيع أسئلة دينية عامة وصلت لأسم الرسول الذي تتبعه، فكانت الإجابة لا تختلف عن كل أجابتها السابقة، تمط شفتيها وتحرك رأسها في إشارة بعدم المعرفة، وعندما استغرب المذيع قالت أنه سيدة غير متعلمة لا تقرأ ولا تكتب، فماذا ينتظر منها؟؟
الشيء الوحيد المنتظر أننا سنقابل الكثير من أمثالها وأمثال الحاجة زبيدة الذين أجبرتهم الظروف أو من حولهم على الوصول لتلك الحالة. تلك الحالة التي إذا لم يتم التعامل معها بجدية سوى الاكتفاء ببعض الردود المفحمة على أي منصة تواصل لتفاقم الوضوع وساء.
بعد نشر الخبر كالعادة ظهر بعض المستهجنون من الخبر، أغربهم على الإطلاق كان شخص لا يفهم سبب كل هذا الاحتفاء، وسبب ذهابها للتعلم من الأساس؟ فكان رده أننا كبشر زائلون في النهاية فلما تتعلم؟ ولما تبذل كل هذا الجهد والعناء طالما ستموت في النهاية؟! لما تتعلم وما الفائدة من تعليم المرأة من الأساس؟
بعد كل تلك السنوات من النضال للحصول على هذا الحق أصبح شغل البعض الشاغل السؤال عن الهدف والفائدة المرجوة من تعليم الفتيات، وظهر خلف هذا السؤال من ينادي بعودتهم للمنزل كما كان يحدث قديماً في العصور الغابرة.
أعتراض هذا الشخص في الأساس ليس على التعلم في العموم كما أدعى، أو على السعي. الاعتراض هنا كان على عمر السيدة الذي قرر الأخ الفاضل أنه لم يعد يسمح لها بممارسة أي شيء، سوى انتظار الموت الذي لابد قادم إليها فلما المماطلة والعمل في الوقت بدل الضائع!
قرر المعترض أنها انتهت بعد مرور عمرها ووفاة زوجها وانتهاء رسالتها في الحياة_كما قرر هو_ ببلوغها من العمر أرذله.
فهي من وجهة نظره لو كانت درست صغيرة لربما كانت استفادت، لكنه عاد ليكرر أنها حتى لو صارت طبيبة أو مهندسة أو أي كان فما الفائدة؟ في كل الحالات سيمر عمرها وستموت ولن تفيدها الشهادة ولا التعلم ولا السعي.
ما لم نفهمه من المعترض كيفية رؤيته لحيواتنا ولأوقاتنا هنا على الأرض فيما نقضيها؟ كلنا سنفنى كما قال، وكلنا نعلم هذا، لكن في طريقنا للفناء ماذا علينا أن نفعل من وجهة نظر الأخ الكريم لنفيد ونستفيد؟
في الحقيقة لم نحاول الدخول في مناقشة معه، لأن المناقشة نهايته محتومة وفائدتها معدومة. أما بالنسبة للسيدة فحتى لو ماتت في القريب العاجل ستكون ماتت وهي سعيدة لأنها أخيراً استطاعت أن تحقق أمنية حياتها الأولى، وأصبحت تقرأ وتكتب كما تمنت قديماً وهي مازالت في بداية طريقها الجديد.