هدير طارق البدوي
هدير طارق البدوي

د

هل كان طريق العودة وعِرًا دائمًا؟

كما الاستيقاظ من نومٍ طويلٍ كالثُبات تكون العودة… هل لأن “البعيد عن العين بعيد عن القلب”؟ كلما ابتعدنا عمن احببناه كلما قل توقنا له، وكذلك حين نبتعد عما يستهوينا نشعر به ثقيلًا على قلوبنا، بعيدًا عن أدمغتنا… فبعد إنقطاعٍ طويل تأبى أيدي الكاتب الكتابة، وتتعجب أصابع الفنان من ملمس الفرشاة.

إلا إنني لم أكن أبدًا من مناصري “البعيد عن العين بعيد عن القلب”، صدّقتُ دائمًا في “ابعد حبة تزيد محبة”، إن المحبة تزداد بالاشتياق، وكلما ازداد الشوق ازداد التوق للعودة، وقتها تكون العودة أصدق وأجرأ، لكنني وبطبيعة الحال لستُ دومًا على صواب.

 تختنق روحي من رائحة هواء الشارع، رغم افتراضية نقاءه، خاصةً في الصباح الباكر، تأبى قدماي التحرك، كما الغائص في حقلٍ من رمالٍ متحركة، يخشى التحرك كي لا تغوص قدماه أكثر، ويخشى الثبات فتضيع فرصته في النجاة بنفسه.

لا تستدعي الخسارة أن نتراجع، فنحن حتى في حالة الثبات نخسر، نخسر الفرص، نتأخر كلما تقدم الآخرون… لسنا في مقارنةٍ مع الآخرين وإنما هي في النهاية مقارنةٌ مع أنفسنا، أين كنا بالأمس وأين سنكون غدًا.

ثم يأتي قرار الاستيقاظ كصوت المنبه بعيدًا خافتًا، وكأنه جزءٌ من حلم، أو ربما كابوس… يقوى الصوت تدريجيًا فتبدأ حواسك مضطرةً في التنبه له، إزعاجٌ يجبرك على الاستيقاظ، ليس إجبارًا تامًا، فأنت من ضبطته بالأمس وأنت من قررت ألا تطفئه اليوم… كنت أنا من قرر الاستيقاظ من ثباتي والبدء في التحرك، لكن هيهات، وكأن القرار وحده كافيًا! فالقرار والفعل نقيضان لا يجتمعان.

بمرور الأيام تتسع الفجوة تدريجيًا بينهما، فلا أنا نائمة ولا أنا اتحرك، لقد اتخذت القرار وأنوي تنفيذه، لكن يظل السؤال الأهم عالقًا بلا إجابة، متى؟

استيقظ يوميًا، مع النية والطاقة لأن ابدأ، وبمجرد أن تهدأ نفسي ويبدأ يومي أجد طاقتي وقد نفذت… إذن، لنبدأ غدًا… وهكذا تجد نفسك في دورة أخرى من الخسارة، لكنك لا تخسر فقط الفرص والمكانة، إنما تخسر أيضًا حربًا قد بدئتها مع ذاتك، كما تخسر سلامك النفسي _الزائف_ الذي كنت قد توصلت اليه.

مع الوقت تجد أن الأمل يقتل، أملك في البدء يأكل من روحك، ربما أكثر مما فعل الاستسلام، لكن ما البديل؟ هل حقًا سأستسلم وأترك الأمور كما هي، هل حقًا سأكتفي بالاختفاء داخل حجرة بالكاد تتسع لي ولأفكاري، غرفتي العزيزة منخفضة الاضاءة البعيدة عن ضوضاء العالم… وما المشكلة؟ هل الاستسلام حقًا بهذا السوء؟ ما الخطأ الكبير في اختيار سلاميّ النفسيّ؟

بمثل هذا الحديث نخدر أنفسنا كلما حاول الأمل التسرب لدواخلنا، كلما حاولنا اتخاذ قرارًا أو ربما عدة قراراتٍ جدد، بمثل هذا الحديث نخسر أنفسنا تدريجيًا.

إذن، فلنتوقف عنه… لازلتُ في مرحلة الاستيقاظ، لازلتُ أحاول، لم أصدق أن الأمل يقتل بعد، على الأقل ليس هذه المرة، لازلتُ أحاول… أستيقظ كل صباح محاولةً الكتابة، أحاول تحديد حقيقة مشاعري واستجماع بعض الكلمات لتكوين جملة _أو ربما اثنتين_ لوضعهما في منشور على وسائل التواصل، قد أُكمل فقرةً كاملةً فأُكافيء نفسي بقطعة من الحلوى… ثم، وفي كل مساء، أعاتب نفسي على إخفاقي، وأعدها أن ألتزم وأن ابدأ حقًا في الصباح التالي.

حتى  أجدني يومًا وقد اكملت تدوينة كاملة، تدوينتي الأولى منذ شهور، أجدني وقد استطعت إخراج إحدى يداي من حقل الرمال بدلًا من الغوص لسنتيميتر آخر اليوم، أجد أنه فجأةً بلا تخطيط قد نجحت محاولاتي، لقد تخطيت النية وبدأت بالتنفيذ، اعتقد أنني _وأخيرًا_ أستحق قطعة كبيرة من الحلوى… لكن، يظل السؤال، هل كان حقًا إختيار سلامي النفسي داخل حجرتي المحببة لقلبي خطئًا كبيرًا؟