ولاء عطا الله
ولاء عطا الله

د

نهايات آثمة

يعترينا الارتباك والخوف دائما عند الاقتراب من سياج النهاية؛ مهما كان نوعها.. بدءاً من نهاية القصة الخرافية اللذيذة التي كانت تقصها عليك أمك قبل النوم، وحتى نهاية الفيلم الذي رشحه لك صديقك، حبيبتك. نهاية الرواية التي قضيت فيها أياما تقرأها بنهم، أو نهاية قصة مأساوية فعلية تابعت أحداثها مصادفة. النهايات كثيرة لكنها ليست متماثلة أبدا، يمكن للبدايات أن تكون متشابهة، لكن النهايات دائما ما تأتي لتحذف فينا منطقتنا الآمنة، تلك المحوطة بأفكارنا ومعتقداتنا البريئة، والتي سرعان ما نتحامى وراءها عند تعرض إحدى دفاعاتنا للخرق!لكن ماذا لو لم تستطع إسعافك بشيء، وتركتك وحدك في وجه تيار الأسئلة وقسوة التأويلات؟

الانتحار.. كخيار لتخليد الحب


الثنائي (زولا & ويكتور) من فيلم Cold War

وهنا أتذكر بحر الأسئلة الحارق الذي فُتح في صدري بعدما انتهيت من مشاهدة فيلم Cold War إنتاج 2018، وكيف أن مخيلتي لم تستطع استيعاب نهاية بطليه (زولا & ويكتور) عندما قررا الانتحار معا، ليوثقا بهذا حبهما الذي كان محموما طوال الفيلم بين الرغبة في البقاء والرغبة في الهجر، كونهما شخصيتين متضادتين في كل شيء تقريباً، بدءاً من نشأتهما، ثقافتهما، اسلوب حياتهما… إلخ.

وبرغم تداخلات الحرب وتقلباتها على قصة حبهما، إلا أنهما كانا كمغناطيس.. مهما ابتعد أحدهما لآخر العالم وحتى في المعتقلات، كان يستدير ليجد نصفه الآخر يقف خلفه ويقول ها أنا هنا مجدداً، ولن أترك يدك هذه المرة؛ لكنهما بارعان في الكذب ومع هذا أيضا صادقان لأبعد حد يمكنك تخيله. هما يدركان صفتهما القبيحة تلك، لهذا رأوا أن الانتحار هو السبيل الوحيد لتخليد حبهما، وأنهما بهذا يوثقان ويؤكدان جدية بقائهما معا هذه المرة!

أن تفني ذاتك في المحبوب فهذا هو الحب كما يقول الصوفيين، لا أن تفني روحك حرفيا لتثبت لمحبوبك أنك تحبه. ماذا سيستفيد محبوبك؟! أستطيع تقبل هذه النهاية في حالة لو تم مطاردتهما مثلا من قبل جماعة شريرة، أو طرف ثالث مغرم بأحدهما ويريد أن يفرق بينهما! ولكن ماذا نقول أمام تقلبات النفس البشرية الآثمة بالفطرة؟

خيبات وخذلان وفي النهاية لا شيء!


شخصيات فيلم The Great Gatsby

من منا لم يتأثر بنهاية فيلم The Great Gatsby إنتاج عام 2013 وخيانة ديزي الشنعاء – التي كلما تكرر عرض الفيلم – يلجم لساني وقلبي أمام ذلك العبث، فلا منطق ولا جزء واحد من العقلانية يستطيع تبرير ما فعلته ديزي بحق حبيبها جاتسبي، الذي لو طلبت منه بيع روحه لتتزوجه لفعلها بطيب خاطر!

كما لا أستطيع تغافل قصة الزوجين في ذات الفيلم (ميرتل & جورج) وخيانة ميرتل لزوجها الحنون المحب، لكنها تدفع ثمن خيانتها بشكل بشع، في لحظة اختفت فيها معاني الحياة الآدمية، فتجد نفسك لا إراديا تتعاطف معها؛ ويبقى جورج ينوح على أطلاله التي لا يعرف أنها متهدمة سلفا.

لماذا حقا نحن البشر لا نستطيع معالجة خطايانا ونواقصنا، رغم إدراكنا الكامل بتأثيرها علينا، بل وتاركينها تحولنا كيفما شاء لها إلى ذوات مهلهلة؟ ففي كل من الفيلمين Cold War & The Great Gatsby كان الأبطال على دراية بأفعالهم، خوفهم وأخطاءهم لكن بدا أن التخلي، الخيانة، الخذلان والموت أسهل بكثير من العبور بحبهم نحو شاطئ الأمان؛ خيبات وخذلان وفي النهاية لا شيء!

بهذه النفوس الضعيفة المتذبذبة بدأت أيقن أن الإنسان حافظ على نسله، ليس لغاية الحب وتعمير أرض الله، وإنما فعل هذا لغايته هو، لينقذ نفسه وعرشه وإمبراطوريته إن وجد. كم من ملك اضطر للزواج من ابنة عدوه ليتحالفان، كم من زواج، علاقة قامت على المصلحة؟ المصلحة وحسب، وتبًا لأي شيء آخر. فالحب هنا – ونحن البشر قد أثبتنا صحة هذا بأفعالنا – ليس له معنى؛ بمعنى أدق لا يعوّل عليه.. وأسفاه على قلوبنا التي محونا عاطفتها ورقتها، من أجل امتلاك بضعة ماديات بخسة.. ماديات كُتب عليها الزوال من قبل ميلادها.

الموت كنهاية يفوز دائما!


(جاتسبي) في آخر لحظات انهياره

أليس من العجب أن الموت كنهاية يكون أهون بكثير من نهاية بلا أسباب واضحة؟ الموت هو مرحلة مفروغ منها، فمهما بكينا الموت بصفة عامة؛ سنجد أننا نتقبل هذا في الأخير؛ أما أن تجيء النهاية وحال قلبك يقول: لماذا؟ فهذا هو القهر بعينه. قيس هذا على كل العلاقات البشرية، وليس تلك التي في السينما والروايات، ماذا ستختار؟ الموت أهون ولا شك.

لا أحد سيحب أن يُتْرَك وحده في مواجهة تلاطم الأسئلة ونافورة التأويلات، محاولا إيجاد خيط البداية. ولو عثرت عليه فسوف يتفرع ويتناثر لخيوط دقيقة، حتى تعجز تماما عن ما حل بعلاقتك الضائعة. وربما ستعيش عمرك كله تسأل لماذا، وهذا ما كان سيفعله جاتسبي في حال لو لم يمت. من الجيد أن فيتزجيرالد جعل الموت مصيرا له، فهذا أهون من مصير التساؤل اللانهائي؛ الموت كنهاية يفوز دائما.