عزة عبد القادر
عزة عبد القادر

د

لتعيش أطول من عمرك

الخلود.. حلم يراود الإنسانية منذ أمدٍ بعيد، فقد خلدت لنا إحدى أقدم الأساطير المكتوبة تفاصيل هذا الحلم الذي سعى من أجله بطلها جلجامش، ليكون خالداً كالآلهة، إلا أنهُ فشل في نيله، لكن الإنسان لم يكف عن البحث. بات الإنسان يوظف كل معارفه وتطوره العلمي والتكنولوجي لفهم الموت، وللتغلب على الأسباب التي تقودنا إليه، من شيخوخة، وأمراض، وحوادث، وكوارث طبيعية.. في الوقت الذي يتطور بشكل موازٍ في ابتكار افتك أساليب التدمير، وأحدث الأسلحة التي بإمكانها محو الإنسان! وبعيداً عن هذا الجانب، وعن الجدالات الفلسفية والدينية التي تفلسف الموت، وتعلل أسباب عدم الخلود الدنيوي، فإن أحداً منا لابد وأن يراوده حلم الخلود، هذا الحلم الذي راود أقدم إنسان كما يراود أي مدرك للموت في يومنا هذا، يقول ميلان كونديرا ( من يفتش عن اللا نهاية ما عليه إلا أن يغمض عينيه) لكن ماذا لو كانت هذه اللانهاية موجودةٌ بالفعل دون أن نغمض عينينا؟


جلجامش

كيف سيذكرك الناس بعد الموت ؟

هل سيذكرك الناس؟هل فكرت يوما كيف سيراك الناس في المستقبل البعيد ، هل سيذكرون اسمك أم ستصبح أنت والعدم سواء ، ربما يزعجك أن تكتشف إن البشر ينسون بسرعة واسم الإنسان مشتق من (النسيان) ورغم أن الواقع يفرض نفسه إلا أن هناك ثمة بعض الأفكار تصنع لك وجوداً بعد موتك ، ولعل من أهمها أن تكتب ، ربما يرصد أحدهم كلماتك ويدعو لك ، أعرف جيدا إنك تحدث نفسك الآن وتقول من الذي سيذكرني وأنا مدون غير معروف وكتاباتي تعيش مؤقتا يقرأها قلة من المتابعين ، وهذا تفكير منطقي ولكنه ليس حقيقاً لأنه لو كان الحال كذلك فلماذا تكتب .

أنت موجود هنا!أنت موجود بيننا كمدون لأنك تريد أن تعيش أطول من عمرك ، إنك تبحث دائما عن الخلود وليست العبرة بعدد من يتابعونك ولكن العبرة بتأثيرك فيهم ، ليس المهم أن تتحكم وتسيطر لمدة محدودة ولكن الأكثر أهمية هو احتواء القاريء وتأثيرك في نفسه ومهما كان العدد صغير فإنه سيكبر مع الأيام بعمق ما تصنعه من تغيير.انتبه وأنت تحاول حفر اسمك ليراه العالم في المستقبل ، فليس لكل اسم محفور سيرة طيبة ، فالمجرمين والظالمين اسماؤهم لا تنسى ولكنها مثيرة للاشمئزاز والاحتكار ، وكذلك عرفت الأراجوزات على مدى التاريخ ولكنها مجرد عرائس يحركها الآخرين.اذن كيف يمكن أن يتحدث عنك الناس في المستقبل ويطمئنون إليك وهم لم يروك ،إن القضية لا تقتصر على إرادتك وحدك بل إن القدر له دور كبير فيما نطمح إليه ، ولكن فقط علينا أن نستعد ونستبشر ونحاول تهيأة أنفسنا لما نريد وندعو الله الواحد القهار أن يمنحنا الخير.

الروح …

إذا هلك الجسد وانفردت الروح بمعزل عنها دع الناس يذكرون فضائلك وينسون سيئاتك. إن إرادتك ستنقطع لتحل إرادة الله وقدره ولكن تبقى أنت المخير طالما لازلت على قيد الحياة . بمقدورك أن تغير ليذكرك الناس بالخير. ولهذا فإنه باستطاعتك مهما كان حالك أن تجعل الآخرين يرون جوانبك المضيئة ليس من أجل الظهور بمظهر ملائكي ولكن بغاية إرضاء الله بجبرخواطرهم .

ماذا تفعل ليعيش اسمك خالدا ؟

ربما تملك اختراعا يفتح لك الآفاق. أو تختزن قصصا تصنع منك أديبا أو تكون مخاطرا وتصبح عداءا ماهرا.أو تكون مدونا مميزا يكتب أعظم التدوينات، ولكن الأهم من الاحتراف والمهارة المهنية تبقى الانسانية هي الرابط الأبقى بينك وبين بني الإنسان والحيوان . لقد كان دكتور مصطفى محمود كاتبا عظيما ومفكرا متميزا ولكن رسالته الخالدة كانت في بناء أعظم صرح إنساني لدعم المرضى والعجائز من كافة بلاد العالم . كان مصطفى محمود حاملا عبيءالبحث عن الكيفية التي يستطيع من خلالها توفير كافة الأجهزة الطبية التي تساعد أصحاب الأمراض النادرة بالمجان أو بسعر زهيد وكذلك الحرص على ترك إرثا نافعا لأولاده ومحبيه حتى يستمر عمل الخير بعد مماته . وفي هذا الشأن قال مصطفى محمود للموسيقآر محمد عبد الوهاب بكل شفافية بأنه يخاف أن يقابل الله بمجرد كلمات يسطرها على الورق وكذلك عبد الوهاب كيف سيقابل الله ببعض الأغاني فالمسألة تحتاج منه إعادة نظر . لقد وهب الله الانسان بالفعل أكثر وأعلى من ذلك بكثير. فكيف يكون الشكر غير متناسب مع عطاء الخالق الكريم. ، لا تعتقد يوما انك تقدم الشكر الوفير والعبادة الكاملة لله لأنك لن تفي الله حقه وقدسيته مهما صليت وصمت وتصدقت. إن الله هو الكريم الوهاب ونحن العباد الأذلاء.

هل يمكن أن تعرف ماذا سيفعل الآخرين وهم يزورون قبرك المستقبلي . هل تخيلت أن كلماتك الجارحة ستظل خرقا في قلوبهم . فإن البشر ليسوا جميعا سواء ومن يمتلك السماح والمغفرة الدائمة هو الله وحده. أما الإنسان الضعيف فإن قدراته على الغفران محدودة.لا تسقط مستقبلك بعد الموت من حساباتك . ولا تسمح لعقلك المادي أن يدهس روحك ودواخلك المعنوية . وإذا كان الإنسان يعيش بجسد وروح فإنه لحظة الفناء ستظل الروح فقط هي رفيقه في رحلته البرزخية ، ستكون الروح هي نفسه هي حقيقته هي صوته.