شروق بن مبارك
شروق بن مبارك

د

فن التعايش مع الذات

ماذا يحدث بعد الجلوس بعض دقائق من فعل اللاشيء، إننا نفكر..

قد تكون السحابة مغيمة، وقد تكون السحب مغشات وقد تكون الأفكار غير واضحة لكن البقاء وحيدا لبعض الوقت يجلب الافكار كأن الفراغ مزمار يستدعي الافكار الى رأس الواحد فينا، وحينها تتحرر الافكار من جحورها وتبدأ في الرقص و التمايل في عقولنا .

تبدأ الأفكار جميلة ثم تنحدر وتبدأ في الانزلاق الى دهاليز وعرة ومظلمة، حينها يتحرر الجانب المظلم داخلنا ويبدأ في القفز أمامنا مرسلا لنا أفكار سوداء عن الماضي او من المستقبل القريب الذي يخبرك بحجم الخراب الذي ينتظرك او الذي يمكن ان يترتب عن قراراتك الحالية الغبية.

وماذا نفعل حينها؟

اننا نهرب، نعم نهرب الى العالم الخارجي، نمارس أشغالنا، نتقن الحديث والدردشة مع الآخرين ألا تتلقفنا ذواتنا ولو لبعض الوقت، ننشغل بهواتفنا الذكية طول الوقت في المواصلات او عند الانتظار في المحلات، عند الطبيب او حتى قبل دخول الامتحان.

نحاول سحب عقولنا الى مكان محدد ونتركه يتلذذ بكل فعل سهل حتى ينسانا ويذهب بعيدا.

لطالما كان الفراغ والصمت محببان لي في اوقات عديدة، لكنهما كانا مؤلمان جدا في أوقات أخرى.

أتذكر انني لمدة طويلة كنت اكسر الصمت بالموسيقى، حتى عند التوجه للدراسة، كنت اضع سماعاتي على أذني ليس بسبب الضجيج حولي، بل اضعها متعمدة حتى في أكثر الاماكن هدوء كالمكتبات الصامتة، كان ذلك هدفه اخماد الأصوات داخل رأسي، حتى تتلذذ هي بالموسيقى وتتركني أفكر في دروسي.

نعم لقد كان الأمر صاخبا في رأسي الى هذا الحدّ ومازال الى حد ما.

فأنا اكتب هذه المقالة وأنا استمع لصوت اوبرالي من اليونان.

لمدة طويلة لم اعرف معنى التركيز الكامل، وكانت افكاري تفسد حياتي في اغلب الأحيان وذلك ما يجعلني أنسي كثيرا ولا انتبه للكثير من الأمور المهمة.

تعمدت اخبارك ايها القارئ بكل هذا، حتى تعرف جيدا انه وعلى الرغم من انني أحدث نفسي واستمتع بذلك، واكتب لنفسي واستمتع بذلك، وأبقى مع نفسي واستمتع بذلك، مع ذلك اتعمد الهروب في كثيرا من الاحيان، تماما كأي شخص لا يمارس هذه الافعال مع ذاته ولا يعرف كيف يتعايش معها، ففي آخر المطاف الجميع متشابهون الى حد ما.

وانا اشبهك وانت تشبهني مهما كنا نبدو غير متشابهين.

كل هذا جعلني اكتشف ان التعايش مع الذات هو فن علينا اتقانه، بدى الامر جليا عندما اختفت الاعمال الخارجية، وانكمش العالم عل نفسه وكل واحد في بيته بسبب فيروس معد ومنتشر في الخارج، قلة الاعمال بسبب ذلك، توقفت الدراسة على إثره ايضا، وبقى كل واحد فينا للاشيء.

كل واحد فينا هرب الى منطقة ما في حياته، هناك من شغل نفسه بدورات تدريبية، وتعلم اشياء جديدة كأفضل طريقة لاستغلال الوقت، هناك من استغل الوقت لمشاهدة أكبر عدد ممكن من الافلام والمسلسلات، هناك من هرع الى مواقع التواصل الاجتماعي، مع ذلك شهر فشهران فثلاثة أشهر، ملّ الجميع من كل ما يقومون به، وبدأت حالة اللاشيء تتسلل للجميع على مستويات مختلفة وبطرق عديدة.

في هذه المرحلة بدأ الجميع يبدي حالة من الاكتئاب والارهاق النفسي، وبدأنا نسمع بجرائم تحدث في العائلات وفي الاحياء السكنية الصغيرة بأشكال بشعة وفاضحة.

ان الاماكن المظلمة التي اصطدم بها معظمنا كانت صادمة الى حد ما للبعض، وذلك ولد حالة من الغضب واحتقار الذات، ما خول للكثيرين السقوط في مستنقع الجريمة.

البعض الآخر يعاني في صمت، بسبب الكثير من الآلام التي اكتشفها حول نفسه، وانقسم على إثرها الكثيرون، فهناك من عاش على احتقار الذات، وهناك من عاش ايامه متقمصا دور الضحية. وأنه المسكين الوحيد الموجود على هذه المعمورة.

وعلى قدر اختلاف وتعدد الحالات النفسية التي لا يسمح حجم المقال في ذكرها كلها، يبقى اهمها ما سبق ذكره بالنسبة لموضوع المقال.

وهذا الاختلاف هو انعكاس لنظرة كل واحد منا لذاته. فحالة الاكتشاف التي حدثت كانت لحظات مهمة، بأهمية هذه الأسئلة: ماذا أريد حقا؟ ماذا أحب حقا؟ هل فعلت ذلك الأمر بسبب كذا حقا؟ أم انني فعلته من اجل كذا في قرارة نفسي العميقة؟ وهكذا يتدحرج الواحد بين الأسئلة العميقة حول نفسه، ليصل لعمق السؤال، لماذا أنا هنا؟ ولماذا أنا موجود؟ وما الهدف من كل هذا؟

حينها تتلخص التساؤلات في سؤال واحد، وهو من أنا؟

وهل تعرف حقا من انت؟

وكل هذا يجعلنا نعي ونستوعب أهمية ان يتقن كل واحد فينا  فن التعايش مع ذاته، وأن يولي اهتماما بالغ الأهمية لذلك بل أكثر من كثير مما يفعله للتأقلم مع الآخر.