ممدوح رزق
ممدوح رزق

د

فصيلة الدم المجهولة

ليس هناك ذنب أكبر من أن تحاول جعل المغفل راقصًا

“شارلي شابلن” المذهول، الذي يسقط كل مرة من كوكب غامض ولا يفهم ما المطلوب منه تحديدًا كي يتوصل لأسباب سقوطه أو على الأقل بلوغ البراعة الكافية لحمايته من التروس العملاقة السعيدة بتحديد قدره في Modern Times .. الذي سيدرك بواسطة أمه وحبيبة الطفولة وألفس بريسلي والشكولاتة والرجبي وحرب فيتنام وتنس الطاولة وصيد الجمبري والحكي للغرباء في محطة انتظار الباص أنه محض ريشة متاحة كليًا لمشيئة الهواء بحسب متطلبات مزاجه البليد مهما بلغت قدرة فورست جامب على الجري .. الذي اضطره “تشاك بولانيك” متقمصًا شخصية “تايلر ديردن” في رواية “نادي القتال” لاستخدام الدهن المشفوط من أم “مارلا” في صنع الصابون للاستفادة من ثمنه في غسل الملابس ودفع الإيجار واصلاح الثقب في خط الغاز بعد أن كانت “مارلا” تنوي استخدام هذا الدهن مستقبلًا في حقن شفتيها بالكولاجين .. الذي يردد طوال الوقت داخل الهوامش الأكثر ضراوة وباللسان الخجول المضطرب الباكي لفلاديمير نابوكوف في رواية “العين”: “رغم ذلك أنا سعيد. نعم سعيد. أقسم أنني سعيد. فلقد أدركت أن السعادة الوحيدة في هذا العالم هي أن تلاحظ، تتجسس، تشاهد، تفحص ذاتك والآخرين، أن تكون لاشيء، مجرد عين كبيرة، زجاجية قليلًا، محتقنة إلى حد ما ولا ترمش. أقسم أن هذه هي السعادة. ما الذي يهم في أنني حقير قليلًا، مغفل قليلًا، وأنه لا يوجد من يُقدّر كل الأشياء المميزة فيّ .. خيالي، معرفتي الواسعة، موهبتي الأدبية. أنا سعيد لأنني أستطيع أن أحملق في نفسي، ولأي شخص هذا أمر ممتع جدًا، نعم ممتع بحق!  .. فالعالم مهما حاول لا يستطيع إيذائي .. فأنا منيع”.

* * *

الغفلة .. الاستيعاب العفوي للأصل الحقيقي للمهانة .. الأصل المطلق الذي تتضاءل بجواره قيمة أية مهانة أخرى ممكنة بصفتها مجرد تابع أو نتيجة لا دخل لها في شيء أو مجرد مظهر سطحي فائدته أن يدل على وجود ملغز فحسب .. حكمة الكشف عن الخام الذي شُكل منه مسرح الجريمة وزمنها .. الفهم البديهي والمستتر أن المهانة لا تحتاج لمعادلاتنا الأرضية الفاشلة، المشابهة للأشياء كافة التي اختبرها “تشارلز بوكوفسكي” ووجدها “قائمة على أسس رملية” .. المهانة حاضرة بحضورنا فحسب .. حضورنا كما هو الذي لا يحتاج لأية أسباب إضافية .. المهانة المجهزة سلفًا بإتقان لتكون المشترك الوحيد بين مقادير الطهي كافة .. أنا مغفل إذن أنا “كلنكسر” الذي بحسب “هيرمان هسّه”: “الأكثر زوالًا، والأكثر إيمانًا، والأكثر حزنًا .. الذي يعاني خشية الموت أكثر منكم جميعًا” .. هذا ما يجعلني مسالمًا إلى هذه الدرجة في مواجهتكم مهما بلغت رغبتي في الانتقام .. أريد أن أظل مرضيًا عني حتى تتركوني قريبًا منكم بما يكفي للحفاظ على ضرورتكم لي كعلامات إرشاد على الطريق نحو السماء .. أنا أعمى ينظر إلى نقطة أبعد مما يمكن أن تخيله.

* * *

في “التاريخ الكوني للخزي” كان من واجب “خورخي لويس بورخيس” أن يعرفنا على “توم كاسترو” الدجال الأبله المتسم بالمرح والغباء والخضوع والمنتحِل بواسطة صديقه الزنجي العبقري “بوجل” شخصية “تيكبورن” الضابط في الحربية ذي التربية الفرنسية والابن الأول لعائلة من كبرى العائلات الكاثوليكية الانجليزية والذي غرقت السفينة التي كانت تحمله في المحيط الأطلسي وترفض والدته الليدي تصديق موته .. أتخيل “وودي آلن” الذي تحمّل مشقة أن يخبرنا في نهاية Annie Hall إننا نواصل تجربة العلاقات المجنونة السخيفة لأننا بحاجة للبيض .. “وودي آلن” بنظارته التي تنكمش وراءها عيناه المذعورتان بخبث وبتلعثمه الماكر وحركات يديه المرتبكة كداهية وهو غائب تمامًا في روح “توم كاسترو” بعد خروجه من السجن الذي قضى فيه سنوات عقوبة الانتحال بينما يتجوّل داخل قرى ومدن المملكة المتحدة كي يحكي حكايته التي يعلن فيها براءته أحيانًا ويعترف بذنبه أحيانًا أخرى .. لماذا قرر “بورخيس” أن كل رغبة “توم كاسترو” (أو “وودي آلن” كما تخيلته) كانت إبهاج الآخرين بحكايته وإسعادهم دائمًا للدرجة التي كانت تجعله في ليال كثيرة يبدأ بالدفاع عن نفسه ثم ينتهي إلى الاعتراف بكل شيء وفقًا لرغبة الجمهور؟ .. لماذا قرر “بورخيس” هذا في نهاية الأمر وقبل أن يذكر تاريخ موت “توم كاسترو” مباشرة؟ .. كان “بورخيس” يحتفل في أعماقه بالزوال والإيمان والحزن والخوف من أن تكون مطرودًا من جنة المستمتعين بدمائك .. كان يدرك للغاية البطولة الكامنة في أن تكون مغفلًا عظيمًا.   

* * *

مقارنة بالآخرين أنت لست متهكمًا نموذجيًا، أي ليس كما يليق بتفوقك التهكمي على الآخرين وإنما كما يليق بغضبك من وجودهم .. الآخرون الذين يخوضون ضدك المعارك اليومية المعتادة وتصنفهم شخصيًا كمُرسِلين دائمين ضد مُستقبِل دائم لا يمكنه على أقل تقدير أن يحاول التدريب أو التمرّن حتى يتخلص ولو بالتدريج من معوقاته الذاتية التي تمنعه من أن يكون مُرسِلًا .. المرتبك الفاقد لسرعة البديهة والذي لا يتخذ أبدًا رد الفعل اللحظي المساوي في القوة والمضاد في الاتجاه فضلًا عن كونه ـ بالطبع ـ يفتقد للدافع أو الرغبة الملحة التي تقوده لأخذ المبادرة الهجومية أو القيام بأي إجراء وقائي يحميه من هجمات الغرباء المستمرة .. الغرباء الهادئون الواثقون المسيطرون، الذين تتمتع حواسهم بالخبرة اللازمة التي تضمن إيلام المرتبكين كما يجب .. حينما تقرر مع نفسك بصدق ضروري وسعادة حقيقية أنك تمثل الحضور المثالي المضاد تمامًا لشخصية “الراقص” البارعة في استخدام “الجيدو” بنوعيه الأخلاقي واللاأخلاقي الذي تناوله “ميلان كونديرا” في رواية “البطء” حيث يعرف الراقص كيف يضع الآخرين في منزلة أدنى ويستولي على المسرح كليًا .. حينما تقرر ذلك فهذه ليست سوى البطولة السرية التي آمنت شخصيًا بكونها الوحيدة التي تستحق احتفاءك الحميمي بها عن أي بطولة أخرى .. الانتصار المتواري الذي شكّله المنطق المعكوس والحجج المقلوبة والاشتغال المضاد وعلامات الاستفهام طويلة المدى.

من كتاب “الغفلة والإدراك” ـ مدخل تفكيكي لفلسفة شوبنهاور / يُنشر قريبًا

https://mamdouhrizk0.blogspot.com.eg/