ياسمين غُبارة
ياسمين غُبارة

د

غير مرئية

نعتاد بطبيعةِ الحال على رؤية وجوهٍ بعينها بشكلٍ متكررٍ فى تلك الأماكن التى نذهبُ إليها مرارًا. كثيرًا ما ينطبع فى ذهني وجه شخصٍ رأيته مراتٍ قليلة فى أى مكان، فإذا رأيته مرة أخرى أتذكره فورًا، ولكنى أتعامل دومًا مع الآخرين على أنهم لا يتذكرونني، بل وأعتمد على ذلك! أعتمد على أن من أمامى لا يتذكرنى ولا يتذكر بأنى كنت هنا وسألت نفس السؤال من قبل وأبرّر ذلك بأنه يمر عليه عشرات من البشر فى كل يوم، ولكني أجده لم ينسَ؛ فأشعر بالحرج وأتساءل.. لماذا يتذكرني؟!

عندما أنظر فى المرآة؛ أجد أن شكلى يشبه كثيرًا من النساء فى سنى نفس الابتسامة ونفس ربطة الحجاب، نفس الذوق فى الملابس والألوان، فأشعر بأنى فردٌ من قطيع أو أنى نسخة بالكربون من الكثير من السيدات اللاتى ينطلقن فى يومِهن من مدرسة الأولاد إلى السوبر ماركت إلى المطبخ، ثم يتصفحون الهاتف ويقومون بالعديد من المكالمات يحكون فيها عن المدرسة والسوبر ماركت والمطبخ، كلنا متشابهون بشدة، فكيف يتذكرني!

أندهش أيضًا عندما ينتبه أحد المعارف لوجودى فى مكانٍ ما ويُلقى علىَّ التحية رغم يقيني بأنه لن يتذكرنى بعد لقاءٍ واحدٍ عابر وسط الأهل والأصدقاء، ولا أعلم لماذا أُفاجَأ فى حين أنى تذكرته من أول وهلة؟!، فلماذا أتوقع دائمًا أن العابرون فى الحياة لن يتذكروني؟!. مع الوقت اكتشفت أن السبب فى ذلك هو أنى لا أريد لهم أن يذكرونى، وبأنى أستمتع كثيرًا بفكرة أن لا أحد يعرفنى ، فأتأمل المحيطين، أعبس أو أبتسم، أتردد أو أسأل كثيرًا بحرية، فلا أحد يعرفنى، ولن يتم الحكم على شخصي بناءً على أى لفتة أو لمحة تصدر منى، واكتشفت أن اختراع “طاقية الإخفاء” إذا وُجِد فسأرتديها كثيرًا، وأن مجرد فكرة أن أكونَ غير مرئية هى فكرة مريحة للغاية، تلك الطاقية قد تمنحنى حرية المسير ليلًا فى الشوارع الخالية، أدندن أغنية بصوتٍ عالٍ، أداعِبُ بقدمى حجارةَ الطريق وأظل مرافقةً لإحداها طوال سيرى، أقذفها من هنا إلى هناك حتى تختفى من طريقى ثم أبحث عن غيرها، أتأمل وجوه وتصرفات الآخرين وأحدّق فيهم دون أن ينتبهوا أو ينزعجوا من نظراتى، أجلسُ على قارعة الطريق ولا أبالى. شعورٌ ممتعٌ أن تكونَ غيرَ مرئي، غير ملفتٍ للأنظار، وقد يكون ذلك هو ما يجعلنى أجدُ صعوبةً فى التأنق إلا فى مناسباتٍ ولقاءاتٍ نادرًا ما أجد نفسي منخرطةً فيها، ولكن، فى الأيام الكثيرة المتوالية المعتادة؛ أميل إلى أن أكونَ عاديةً جدًا فى محاولةٍ لطلب الراحة الداخلية، فى محاولةٍ للتحرر من أى قيد، فالعادى جميل الأكل العادى، اليوم العادي، الناس العادية، كل ما هو عادى يمدنى بالاستقرار النفسي وإن كان يسبب الملل أحيانًا، فمن السهل تعديلة أو” تحبيشه” بأي إضافات، ولكن يظل العادى هو النعمة الأساسية، هو الراحة والسكون ، هو المَظلَّة التى نستظل بها من صَخَب الحياة هو جزءٌ كبيرٌ من إحساسنا بالأمان، وقد يكون ذلك بالتحديد هو ما أبحثُ عنه برغبتى فى أن أكون غير مرئية، الأمان والبعد عن قلقٍ داخلى ينبع من التواجد ومن مراقبة الآخر فى زمنٍ أصبح فيه هاتفُك هو أكثرُ مَن يراقبك ويخترقك، وتكاد تكون وظيفته أن يُخرجنا من أي دائرةِ أمانٍ نبحثُ عنها ونتمسكُ بها، ولكن عالمنا لا يُقدمها طواعيةً، بل يجب أن نأخذها منه بقوةٍ وحكمةٍ أو حتى بطفولةٍ وعبثيةِ (طاقية الإخفا).