ممدوح رزق
ممدوح رزق

د

ضد “تأويل” سوزان سونتاج

كتبت سوزان سونتاج مقالها الشهير “ضد التأويل” عام 1964 بدافع الاستياء والضجر من الغريزة القرائية التي تخلق البشر كماكينات للتفسير وإنتاج المعرفة .. الغريزة التي أنتجت طبيعة نمطية للنقد وهي “الاستقراء الدلالي” أي اتخاذ قرارات حاسمة بشأن الأفكار التي تُشكل العمل الأدبي أو الفني، وتكوّن جمالياته .. تطويع ما هو شعوري أو حسي إلى مبدأ محدد أو مفهوم ثابت.

لكن ذلك ليس تأويلًا وإنما هو “قمع للتأويل”؛ إذ أن تفسير وترجمة عناصر القصيدة أو المسرحية أو الرواية أو القصة إلى شيء آخر، أو الفهم المحصور لنقاد الأدب عن مهمتهم كما تقول سونتاج؛ هو كبت للاحتمالات والإلهامات غير المحكومة التي يثيرها النص، وإخضاع استفهاماته لقوالب صارمة أو سياقات جاهزة تمثل الحقيقة في وعي “المفسِر” .. هو إخماد للفرضيات المتعددة للعمل الفني والتي ينبغي أن تكون مكونات للعبة لانهائية غير مشروطة بقواعد .. سونتاج تخلط بين “التأويل” كتحريض على تفكيك “المعنى”، وبين “التفسير” كتقييد لجموح التلقي أو إعادة الكتابة .. لماذا تفعل ذلك؟ .. ما أكتبه ليس إجابة على هذا السؤال، ولكنه “تفكير” في الإجابة بما يعني توليد المزيد من الأسئلة.

هل كانت سوزان سونتاج تحلم بسلطة كونية إعجازية أو قدرة غيبية خارقة تُجبر مثلًا قارئ قصة “أمام القانون” لكافكا على عدم الاستجابة العفوية لاستدعاء صورة “القانون” في ذاكرته أو ما تمثله تلك الكلمة في تجربة حياته أثناء قراءة القصة، أو تُحتم على مشاهد لوحة man in a bowler hat لرينيه ماجريت الامتناع التام عن الاسترجاع التلقائي لما يعنيه “الطائر” في نفسه خلال تلك اللحظة، أو لما تثيره رؤيته وفقًا لخبرة ماضيه؟ .. إن هناك من يتوقف عند حدود اليقين الخاص بردود الأفعال البديهية تلك، وفي المقابل هناك من يتجاوزها .. هناك من يستقر عند الإدراك الفوري المروّض للنص أو اللوحة اعتمادًا على ما يُنظر إليه كـ “أصل” معرفي، وهناك من يراوغ الحضور الاستباقي لهذا الإدراك .. هناك من يظل محتجزًا داخل التعريف التقليدي لـ “القانون” في قصة كافكا، وهناك من يتخطى ذلك التعريف، كما كتبت في قراءتي النقدية للقصة والتي تضمنها كتابي “هل تؤمن بالأشباح؟ ـ قراءات في كلاسيكيات القصة القصيرة”: “هو يتفحص القانون الأكثر اتساعاً ومراوغة وتوحشاً من إمكانية التعريف .. الذي لا تؤسسه يقينيات حاسمة، ولا تنظم حركته مشيئة أخلاقية مفهومة، ولا يسعى لتحقيق أهداف يمكن استيعابها” .. هناك من تمتلكه الإحالات المألوفة لـ “الطائر”، وهناك من يحاكم هذه الإحالات في لوحة رينيه ماجريت لتجعله ـ كالقانون ـ لغزًا لا يُجسّده إلا الظنون المتغيرة.

إن “الابتذال” ـ وبتجاهل الحكم الأخلاقي في الوصف الذي استعملته سونتاج ـ لا يكمن في المرجعية الاجتماعية أو السياسية أو النفسية أو الدينية التي تبدأ مسارات “فهم” النص منها، وإنما ـ ودون إدانة قيمية ـ في انتهاء تلك المسارات عندها .. سيطرة “الإيمان” على “الفهم” الأمر الذي يمنع تحوّله إلى “لعب” .. الذي يُبقي النقد وظيفة إيدولوجية بشكل ما وليس مقاومة للمطلق باستخدام أدوات همينته نفسها .. مرة أخرى هذا هو الفرق بين “التفسير” أو الرغبة في الشعور بالرضا، وبين “التأويل” أو الرغبة في تحفيز القلق .. ما جعلتهما سوزان سونتاج شيئًا واحدًا.

ربما نعتقد أن سوزان سونتاج كانت تحلم بهذه السلطة الكونية أو القدرة الغيبية حقًا حين نفكر في دعوتها لعدم طرح الأسئلة عما يعنيه النص .. مشكلة سونتاج كما كتبت من قبل في عدم قدرتها على التفرقة بين التفسير والتأويل من حيث أن التفسير يتعلق بالمعني بينما التأويل يرتبط بانتهاكه .. لاحظ أن استشهاداتها الخاصة بالأساطير تدعم عدم قدرتها على هذه التفرقة: زيوس يمثل السلطة، الهجرة الجماعية في سفر الخروج والوصول إلى أرض الميعاد تمثل الخلاص النهائي إلخ (تفسيرات جامدة تصفها “بسذاجة” بالتأويلات) .. إن “إيروسية الفن” أو الاكتفاء بوصف شكل العمل الفني أو مظهره، أو بالقراءة المجردة للنص الأدبي كما تقترح سونتاج ستتطلب حتمًا استعمال كلمات، والكلمات تمتلك أنساقًا لغوية طالما أن “الواصف أو “القارئ” لديه ذاكرة، وبالتالي فالأنساق ستعلن عن نفسها كبنية غير مكتملة أي كمحتوى من الغموض، إما أن يجاب على أسئلته فورًا أو يتم تحريض أسئلته على التناسل، أي أن ما تقترحه سونتاج لن يتم إلا باستخدام الاستفهام كباطن أو جوهر لكل ممارسة لغوية يحتاجها الوصف أو القراءة المجردة، المسألة تتعلق بالتعامل مع الاستفهام: هل نقنع بالردود المشبعة أم نعتني بالأرق؟.  

يبدو الأمر أقرب إلى عاطفة انفعالية فحسب عند سوزان سونتاج، احتاجت للتعبير عنها استعمال مفردات لا يوجد ما يمكنه أن يعوق عمل دلالاتها وتساؤلاتها في وعي متلقيها، حلم باختفاء الأفكار، بتنقية الذهن من لعنة اللغة، أن تصير “الحسية” خارج ثقل الكلمات التي يمكن أن تحيلها إلى شيء آخر، ومن أجل إكساب هذا الحلم موضوعية ملفقة لم يكن عليها بالضرورة تحرير مفهومها عن “التأويل” باعتباره “الخيال” الذي يحقق “إيروسية التلقي” أو محاولة ضمان عدم رضوح الرؤية الحسية لنمط أو عقيدة متعالية، بالتناقض مع “التفسير” الذي يجرد الحسية من المرونة ويحرمها من إمكانات طيشها .. هذا التحرير كان سيمنعها من استعراض حلمها الحسي في رداء نظري “مهترئ” .. إن وجهة النظر الاستبدادية هو ذلك الإجراء المتسلط العبثي اللامنطقي وغير القابل للتحقق الذي تريد سونتاج من “الفرد اللغوي” ـ أي الذي خلقته وكوّنت ذاكرته وشكّلت وعيه اللغة ـ بإعطاب خواصه العقلية عمدًا بحيث يمحو على نحو قاطع ماضي الكلمة وماضي المشهد حين يقرأ أو ينظر .. ما يبرز تناقض سونتاج هو دفاعها عن رغبتها: “الاقتراب المباشر بوعي حسي عال يجسّد معاني واحتمالات عديدة” .. حسنًا هذا هو التأويل، ومضاده التفسير الذي يفترض أنها تجابهه مع افتقارها للتمييز بينهما .. المعاني والاحتمالات العديدة التي تطمح إليها ـ مع تجنّب المناهج والقوانين ـ ستمر أولًا على عتبة بديهية اسمها “كلمات الحواس” أي الأثر الذي سبق أن تركته عناصر المحتوى الأدبي أو الفني في الذاكرة .. المعاني والاحتمالات العديدة هي ما ستصير إليه تلك الكلمات، أي ما لا يجب أن يبقى مؤطرًا، بل في حالة استعداد دائم لتجاوز نفسه .. سوزان سونتاج لديها مشكلة في تحديد ماهية “التأويل”، “التفسير”، “المضمون”، “الحواس”، “القوانين” .. لكنها مشكلة غير متعمدة لإنها مرتبطة بانفعالها “الوجداني” الذي اشترط “سياقًا كتابيًا” لطرحه .. السياق الذي لم ينجح ـ لأنه قائم على الانفعال المحض ـ في إخفاء ثغراته الساطعة وأبرزها “أنا أتحدث عن القوانين فقط / افتراض وجود مضمون خطأ” .. لو كان خطابها إدانة للقوانين فهي تقر بوجود مضمون ولكنها ترفض مقاربته بالقوانين “التفسير كما يغيب عن فهم سونتاج”، ولو كان خطابها إدانة لافتراض وجود مضمون فهي تقر بأنه ليست هناك مقاربة بالقوانين أو بغيرها إزاء هذا الغياب لأن الحسية ذاتها تفترض كيانًا يمكن “لمسه” بطريقة ما، وهذا اللمس حين يثير شعورًا فإن عدم القدرة حتى على تحديده سيترجم إلى كلمات تلقائية، وبما أن الكلمات ليست كائنات مستقلة، مبتورة الأطراف في التاريخ الشخصي فإنها ستفرض “مضمونًا”، هذا “المضمون” ليس ظاهريًا ولا مجازيًا كما تتصوّر سونتاج بقدر ما هو “إيهامي” حيث “كل ما يبدو عليه العمل الفني” ليس فضاءً من الصمت فاقد الذاكرة بل ذخيرة صراع وجدل تشير إلى حاملها الخفي (التجارب والخبرات)، أشباح من الرموز والعلامات التي يستحضرها الذهن عفويًا حين يتم تنبيهه إلى ما يرتبط بها (نعم التفاحة ليست ما تبدو عليه في اللوحة سواء بالنسبة لي أو للرسام لأنها ببساطة استدعت ذكريات جعلتها شريكًا في تأثيرات وجودية تؤسس رؤيتي للوحة مثلما كانت بالنسبة لرسامها؛ إما أن أنتهز مفترق الطرق هذا في تحويله إلى متاهة أو في جعله مجرد محطة وصول آمن) .. أما المضحك فعلًا أن سونتاج حينما أرادت استعمال كلمة “راديكالية” جعلتها وصفًا “اتهاميًا” لإعادة الكتابة / محو النص / تعديله / تغييره، أي ـ بحسب وجهة نظرها ـ ما يستتر وراء ادعاء جعل النص واضحًا ومفهومًا فحسب بالكشف عن معناه الحقيقي  .. إن إعادة الكتابة أو المحو أو التعديل أو التغيير هي مهام “تأويلية” تحمي النص من أن يكون واضحًا ومفهومًا “مخصيًا”، أو خاضعًا لـ “معنى حقيقي”، أي تحميه من “التفسير” .. كأن سونتاج تدافع عن “التفسير” ـ وهو المضحك في الأمر ـ من حيث أرادت إدانة “التأويل” المناقض له.

كان يمكن لسوزان سونتاج أن تفكر في الأمر كرجاء رومانسي فحسب .. أمنية أسطورية .. لكنها أرادت ـ بنزق طفولي ـ تحويلها إلى “قانون” واقعي، ولمنحه “مشروعية” ما تعاملت مع “التأويل” بمنظور قاصر ربما يدفعنا للتفكير في أن الناقد المشغول بإيروسية الفن حقًا ينبغي أن يكون “ضد ما تعتقده سونتاج عن التأويل” وإلا ظل ناقدًا مفسِّرًا.   

https://mamdouhrizk0.blogspot.com/