عماد الدين زناف
عماد الدين زناف

د

الزيتيتيك، أو المنهج العلمي في التشكيك!

الزيتيتيك أسلوب إغريقي قديم يتمحور في الفصل بين المُعتقدات (الأمور الظنيّة) والحقائق العلمية والفكرية والإجتماعية، كذلكَ تفصل بين العلوم الحقيقية والعلوم الزّائفة، المعلومة الحقيقية والمعلومة الكاذبة، الدفاع الموضوعي عن بعض المعلومات والدفاع عن المعلومات المتأثرة بتعارض المصالح (مثل دفاع شخص ما عن شركة مُعيّنة، دون ذِكر أنه موظف فيها أثناء المحاجة، وهو أمر غير قانوني).

يُمكننا استخراج نوعان من الزيتيتيكيين، أو لنقل “المُشككون، الشكاكون” حتى تَسهُلَ الكتابة ويَسهُل النطق. الأول هو الذي يدافع عن الأمور العلمية البَحتة، يُعارض الأفكار دون أن يتطرّق إلى الأشخاص، ولا يملك أي مصالح مُلتوية أو مَدخول مُقابل ذلك العمل، لأن أي مَدخول يُعرّض المُشكك إلى مفهوم تعارض المصالح، فمن يدفعُ له كي يصحح أخطاء الآخرين، سيدفع له ليدرأ عن أخطائه.

النوع الثاني هو الذي يَخلط بين الجميع، أي، يَضع المؤمنين وأصحاب نظريات المؤامرة وأصحاب إيديولوجية مخالفة له في نفس الرُّكن، ويذهب لينتقدهم “علميا”.

هذا ما يُسمّى بالانحياز المعرفي والتأكيدي معاً، ذلكَ أنها ستصبح عملية دفاع عما يروق له، لا ما يقوله العلم بحياد. علماً أنه ليس من مهام الزيتيتيك الدخول في الحوار الثيولوجي بين المؤمن وغير المؤمن، ذلكَ أنه حوار ليسَ قائم عن إثبات علمي بالمعنى المادي الصريح من الطرفين، إنما هو قائم على الإيمان غيبا، أو النكران. طبعاً، هناك محاولات من الطرفين لاقتحام الجانب العلمي، لكن الحُكم ليس بيد المُشكك أو المُصحّح العلمي.

كذلك، يخلط هذا النوع بين نظرية المؤامرة المُمكنة، ونظرية المؤامرة السخيفة (المستحيلة).

ذلكَ أن هناك نظريات مؤامرة قابلة للنقاش، مثل تؤامر أطراف سياسية على أطراف أخرى للإطاحة بشخصية ما، وقد حدث ذلك مع الرئيس كيندي ومع غيره من الرؤساء والمُمثّلين وغيرهم، فمن غير المعقول أن يُقال ليست هنالك مؤامرة، إنما تبقى مؤامرةً مَقبولة ومنطقية، ذلكَ أنها قابلة للتصوّر والحدوث. لكن المؤامرة السخيفة تكمن في اعتقاد أن رؤساء العالم من سلالة الزواحف أو أن الأرضَ مسطّحة وأشياء من هذا القبيل التي لا يُمكن إثباتها بأي شكل ولا بأي حال من الأحوال، فيتطرّق الزيتيتيك مُغالطا وكاذباً لهذان النوعان بنفس درجة الاستخفاف، غير أن النوع الأول لا يوضع في نفس طاولة الثاني.

الزيتيتيكي باحث عن الحقيقة، حتى لو وجدها أنها تخالفُ هواه وما يريده. الزيتيتيكي الحقيقي، يبحث أولا عن تصحيح أفكاره ومعتقداته، قبل التطرق لأفكار ومُعتقدات الآخر ذلك أن من لا يُصحح لنفسه، لن يستطيع أن يَعدل مع الآخرين.

ليسَ كل ما يُقال أنه حقيقة علمية وفكرية واجتماعية هو فعلاً كذلك، وهنا يأتي دور الشكّاك الباحث.

المُشكك الباحث عن الحقيقة، لا يتقيّد بطبقة عن دونها، أو جهة عن أخرى، فهو يتطرّق لكل الجهات، بما يتماشى ومجاله العلمي، ذلكَ أنه لا يوجد شخص في العالم مُتمكّن في كل العلوم إلى درجة تصويب الجميع في كل المجالات.
أولويّة الزيتيتيكيّ، هي معاكسة وإحباط محاولات التشويش العلمية من الذين يملكون القرار، وقدرة التأثير وقدرة الترويج، بعد ذلك، يمكنه الاعتناء بالبسطاء، الذين لا يملكون القدرة على التأثير.

هناك مجموعة من الزيتيتيك الذين قرصنوا هذا المجال وجعلوه عبارة عن دعاية جديدة باسم العلم والإيديولوجية، أي أنهم مثلا يشككون في نجاعة الاشتراكية للترويج للرأسمالية، أو التشكيك في الفكر المحافظ للترويج للفكر المتفتّح، وكل هذا باسم العلم والتجربة. يُمكننا عقد مقارنات بين المفاهيم والنظريات، لكنها ليست أبدا من مهام المشكك، ذلك أنه لا يُروّجُ لشيءٍ ما، مهمته تنتهي في التصويب، بقول مثلا أن الاشتراكية تقول كذا وليس كذا، او أن الاشتراكيون قد قاموا بكذا ولم يفعلوا كذا، وفقط، دون التطرق إلى “البديل” أو الدعاية له.

آخر شيء أريد التطرق له حول هذا الموضوع المعقد بعض الشيء، هو أن جميع المروجين لفكر أو نظرية أو علم أو معتقد ما، دون استثناء، يفعلون ذلك لتقوية فكرهم الخاص وشد الأزر فيما بينهم، أكثر من محاولة اقناع الآخر بذلك المنهج الذي يتبنّونه. لذلك، نلاحظ شيئا من التعالي والثقة عندما يتحدثون فيما بينهم، أو عندما يعرضون بضاعتهم في المنصات المرئية أو السمعية أو في الكتب، وكذا نوعاً من الاحتقار للجانب الآخر، وتقزيمهم بطرق مباشرة أو غير مباشرة. وهذه العملية “إنسانية بحتة”، ليس فيها اعتداء على الآخر، لأن الإيمان العميق بشيء ما، عن قناعة وحب، يجعلك ترى نقيضها محلاً للسخرية في كثير من الأحيان، ذلك أن الآخر لم يصل إلى ما توصّلتَ إليه من فكر أو شعور عميق. بذلك، نجد أن الزيتيتيك، كغيره من البشر، لا يمكن أن يتجاوز بشريته باحتقار من لا يعلم ما يعلمه، وغالبا، تجده يستخف من يأتي بمعلومات خاطئة. وهذا الأسلوب، قد يظهر على محيّا المُشكك، وهذا ما يجعله عرضة للتنمر أو الكراهية أو “الإلغاء الإلكتروني”، أو قد لا يظهرُ عليه، وبذلك ينجح في إيصال رسالته التصويبية دون أي انزلاق لفظي أو جسدي، وهنا تكمن مهارات البشر “الوراثية”.

على المُشكك أن يعلم بأن “المُخطئ” أو “صاحب نظرية المؤامرة” أو “المُدّعي” يملك المعلومة التي يملكها أو ربما أكثر منها، فالعملية ليس في محاولة سرد ما يقوله العلم وفقط، بل معالجة سبب عدم الوثوق بالعلم الحديث بكل تفرّعاته، قبل إعادة ما يقوله العلماء بشكل حرفي.