شهد أحمد
شهد أحمد

د

الحمدلله.. بكى!

” أدفعي مع الألم، أدفعي مع الألم” هذا ما قالته طبيبة النساء و الولادة  أمام آهات متألمة، ووجهٍ أنهك التعب حناياه، و روحٌ تريد الخلاص. حدث ذلك كله يوم الثلاثاء ال٢١ من شهر صفر لعام ١٤٤٣للهجرة. أصبحت ذلك اليوم و أنا اتأمل زرعة البوتس أمام سريري وأنا أراها تتماسك و تعلو بأوراقها للأعلى رغم الجفاف و أشعة الشمس الحادة الخارجة من نافذة غرفتي.. تأملتها بمليّة و كأني أرسل لها رسالة ” أرجوكِ تماسكِ و ابقِي لي معنى للنضوج و الإزدهار يساعدني على المُضي في حياتي” معنى يُذكرني بإن الأصل هو الإزدهار، و الذبول مجرد مرحلة مؤقتة  توصلنا إلى المراحل المُشرقة في الحياة.

“دكتورة أود أن أدخل غرفة الولادة!” هذا ما نطقت به بمجرد ما رأيت الدكتورة في الصباح. جرينا معها مُسرعين، نتسابق الخُطى و تتسابق أرواحنا شوقًا للتجربة و لرؤية سطور الكتب أفعالًا و حياة.. بمجرد ما دخلنا تثاقلت أرواحنا خشيةً و ترقُب. كانت كل غرفة بالممر تنطُق بالآلام و صرخات الخروج للحياة. سمعت ذلك اليوم صرخة الأمهات الأولى في حياة أبنائهم. صرخة الدفعة القوية الضخمة التي استجمعت فيها أجزاءً متناثرة من روحها لتخرجه معها إلى الحياة.. أن تعال يا ابني. تعال. رغم الألم، ر غم الحُرقة، رغم الانشقاق الجسدي و الروحي أريدك معي. تعال. 

دلفنا إلى أحد غرف الولادة، كانت الصرخات أكبر مما يستوعبها عقلي، و أكبر من قلبي الصغير.. في المرة الأولى هممت هاربة خارج الغرفة. شهد! أنتِ من طلب رؤية الولادة في البداية فكيف تهربين؟ لا أعلم جهازي المناعي النفسي قال لي أخرجي بسرعة. نهرت نفسي كثيرًا فإن لم تحصل لي رؤية هذا اليوم فمتى ستحصل؟ 

تقدمت الممرضة:”دكتورة في أم ثانية في الactive stage  “ ركضت مُسرعة مع الطبيبة إلى غرفة تلك الأم، و هي تتأوه من الآلام، و العرق يملأ حنايا وجهها، و عيناها تصرخ بالخلاص. كانت تقول للطبيبة : “خلاص تعبت.. خلاص” كيفك يا  ؟ إن شاء الله بخير؟ كل شيء بيصير بخير و البيبي بيطلع بخير ما باقي شيء.” ووضعت يدها على بطنها و بدأت تذكر: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ” صوت تأوهات الأم الحارقة مع آيات القرآن المُرتلة المُريحة في تلك اللحظة المليئة بالألم كانت صورة إعجازية تعجز كل الحروف و الكلمات عن وصفها، وكأنها بذلك توصف رحلة الإنسان و تلخصها.. فيا رب منك المدد، و إليك الرجوع و إليك التُكلان، و نحن العاجزون من غيرك. على الرغم من الألم المُنتشر في زوايا الغرفة، إلا أن الرحمة كانت تتدفق من الجميع.. فتحول الجميع في تلك اللحظة إلى عائلة واحدة. طارت الألقاب، طارت المسميات و بقيت رحمة الإنسان. فتلك الممرضة التي تضم يدها و تُصبرها و تلك التي يهلج لسانها ب”  أدعي بما تتمنين فالدعاء مُستجاب” أكملت معها الطبيبة عندما رجعت الطلقات.. أدفعي مع الألم، الألم هو الذي سيخرجه أدفعيه.. كانت تدفع ثقل العالم كُله، ثقل الحمل، ثقل الحياة، ثقل كل التعب في صدرها إلى الخارج. كانت بضع دقائق، لكننا أحسسناها كساعات طويلة، و كأن الألم الذي تشعره مُدد بالزمن إلى الأبد، كنت أرى علامات البُكاء و التعب على مُحياها أنهكتها فبدى اليأس على ملامحها..  كُنت أراها و أرى وجه أمي الحنون فيها… و في لحظة انفصلت بها عن الواقع و ذهبت بعيدًا إلى قلب أمي. وجه أمي، ريحة أمي، و حضنها الدافئ يااااااه يا ماما كم أحبك! أحسست لحظتها بإن رابطة قوية ارتبطت مع أمي حينها و تمنيت في لحظة لو أن المسافة ما بين الأحساء و بيتنا بضع خطوات لأرجع و أزيل الشوق الذي مزق حناياي.. رجعت إلى الواقع عندما سمعت تلك الصرخة المدوية.. التي خرج بها الجنين إلى الحياة. من المستحيل أن أنسى أول اللحظات بعد خروجه. و ضعت الطبيبة الجنين على صدر الأم، و ضمت طفلتها لأول مرة. ضمت جزءًا منها بكل العطف.. هُناك في تلك الغرفة يتوقف المنطق، تتوقف الحسابات.. يصبح ١+١ = صفر، و تتحدث المعجزات، تتحدث العاطفة، يتحدث الحب المتدفق اللامنتهي، و يُتنعش الإنسان و تُنتعش الروح.. لحظات قليلة. رأينا بعدها ابتسامة واسعة من الأم..كانت تنظر بها للفراغ. ابتسامة الخلاص من تلك المعركة الطاحنة.. كانت تلك الابتسامة هي السؤال الوحيد الذي عجزت عن إجابته إلى الآن. 

تلك اللحظات في غرفة الولادة ترسل لك معاني الحياة بلا هوادة. تتلقفها في كل زاوية من الزوايا، فترى رحمة الله تتمثل في حنان الطبيب، في شفقة الممرض، و في لحظات الترقُّب عند توقف الطلق إلى  لحظات الفرح و السعادة عند سماع صرخات الطفل الأولى.. تتبعها ” الحمدلله بكّى”، و ترجمة ذلك البكاء في لغة الطب هو ولوج الهواء رسميًا لرئتيه الصغيرتين، و ما الألم هنا  إلا ردة فعل مطمئنة على اتصاله بالحياة و على ذلك فقس..

قسم الولادة عبارة عن مشهد رمزي واقعي لحياة الإنسان و في كل غرفة من غرفه تتكرر ديمومة الضيق و الفرج و كأنها حلقة لا منتهية من الألمٍ إلى الأمل، و من الضيق إلى الفرج.. فتُذكرك أن رحلة الكدر جزء من حياتك، و الفرج جزءه الآخر.. و الفرج عندما يأتي بعد الضيق و انقطاع الأمل، يكونُ بردهُ نديًا زُلالًا على صدرك.. كابتسامة تلك الأم الحنون..